“خديجة” الأم التي لا تحتفل بعيدها
في سن 13 أصبحت أماً … وربت 16 ولداً قبل أن تفقد زوجها وتشردها الحرب
سناك سوري – آزاد عيسى
كانت الأرض تميد، والسماء تشتعل فوق رأس “خديجة جيجو” وأبنائها الثمانية، عندما قررت الهروب بهم من مدينة “حلب” باتجاه المجهول. لا شيء يمكن حمله مع هذا الليل إلا كتل اللحم الغض الذين لم يشاهدوا من الحياة غير الموت المختبئ خلف المتاريس.. تعثرت وهي تحاول اختبار الزوايا المعتمة في طريق النزوح، ولكنها عادت لتجلب أول دفعة من أولادها الكبار.. أمنت الزاوية جيداً وعادت لجلب الباقي، وعقلها يخبرها أن الآخرين ليسوا بخير .. لكن قلبها كان أقوى وهي تسرع الخطى نحو الأمان المفترض، في بلاد كانت كذبتنا الكبرى، وفضيحتنا التي تمسكنا بها دون إرادة منا لزمن طويل .. “الأمان”. (كل عام وأنت بأمان).
تسترجع “خديجة” شريط بؤسها لـ سناك سوري بعد أن استقر بها الحال في مدينة “القامشلي” لتفرغ ما أصاب روحها عندما دخلت قفص الزواج بسن مبكرة، فهجرت المدرسة طفلة صغيرة، تصبح أماً ومربية لأبناء (ضرتها) الثمانية، قبل أن تبدأ بالإنجاب، فيصبح لديها ما لدى ضرتها، 16 عشر ولداً يجب تعليمهم والاهتمام بكل تفاصيلهم في جنة الزوج، وتقول: «ساعات طويلة أقضيها مع 16 شخصاً بالتربية والتعليم والطبخ والغسل، أتناوب على إطعامهم ونومهم، أعلم قسماً في ساعة معينة، وبعدها القسم الآخر، حتى أصل لساعة متأخرة من الليل، وأذهب إلى النوم وأنا جالسة بدون شعور ووعي. لأستيقظ قبل طلوع الفجر، فالأطفال سيذهبون للمدرسة، وترتيب البيت بحاجة لجهد وساعات طويلة. عمري لم يكن يتجاوز 13 عاماً عندما تزوجت، وتسلمت فوراً قيادة 8 أشخاص، كانت قيادة متعبة، لكنه قضي الأمر وبات أمراً واقعاً».
قمة الجلد للذات والواقع أن تتمنّى “خديجة” لو استمرت في معاناتها بتربية 16 شخصاً، ولا أن تذوق هذا التشتت والضياع وهجرة موطن ولادتها وهي مكرهة: «أثناء فترة الاشتباكات في مدينة “حلب”، فقدتُ الزوج، وانفصلت الأسرتين، ولم يبق معي إلا أبنائي الثمانية، خفتُ عليهم كثيراً، قررتُ أن أهرب بهم خارج المدينة، تركتُ كل شيء من المنزل وما فيه، وهربت تحت الرصاص والقصف، مرة أقع أرضاً، وأحياناً أنهض بأطفالي إلى نقطة معينة، وأعود لنقطة أخرى لأصل بالبقية لعند إخوتهم، هكذا حتى خرجت من المدينة بأعجوبة. لم أكن أملك إلا قوتي، ودعائي إلى الله أن يتولى أبنائي برحمته».
اقرأ أيضاً من أجل ربطة الخبز قُطعت إصبعه!!
في مدينة “القامشلي” لاحقها الجوع كوحش لا يقل ضراوة عن تلك الرصاصات التي حامت فوق رؤوس أبنائها، فلا رجل تستند عليه، ولا لها معرفة بشيء هناك، وأضافت: «ما قدرت آخذ شوي من الراحة بعد خوف وتعب من “حلب” إلى “القامشلي”، حصلنا على غرفة يتيمة من أجل النوم، وبمساعدة بعض الخيرين بالفرش ومواد المطبخ، وبحثت عن عمل يساعدني على تأمين لقمة العيش، ووجدته وأحافظ عليه بكل قوتي حتى لا أقطع الخبز عن المنزل، لسنا بخير ولا يمكن أن أحلم الآن بجلب اللحم والفواكه والحلوى لصغاري في الوقت الحالي رفاهية غير مبررة، ولكنهم على قيد الحياة وهذا ما طلبته من الله حين كنا بخطر».
جميع الأعياد من المنسيات عندها، بما في ذلك “عيد الأم”، فالأمهات اللواتي مثلها، وبأعداد كثيرة، عليهن العمل والكفاح من أجل رغيف الخبز ودفتر المدرسة، تقول: «تربية أطفالي بطريقة مناسبة، والحفاظ عليهم من الضياع، وتعليمهم لأبعد مرحلة، هو غايتي واهتمامي. نسيت تماماً أن هناك عيداً للأم. الاحتفال الحقيقي هو الاهتمام بنا ومساعدتنا ومساندتنا، ولم أجد أي شيء حتى اللحظة،».
تختم حديثها بالعامية: «بحب قول للنساء إلي يحتفلوا وما إلهم هم وتعب، ومن كل قلبي: كل سنة وأنتو مو معترات متلي».
في “عيد الأم” هذه صرخة لا تشبه الصراخ، فالوطن الذي أطعم لاجئي العالم عبر زمن طويل، بات الجوع يلاحق أبنائه في ديارهم، والذين يدفعون الضريبة الأمهات اللواتي فقدن المعيل، فلا زوج قادر على العطاء إذا كان حياً، ولا الأبناء قادرون على العمل إذا كانوا لا زالوا في الوطن؟.
اقرأ أيضاً في يوم المرأة العالمي: أم لأربع قاصرات تطرق أبواب السماء