جريمة قتل العقل الحر – حسان يونس
سوريا التاريخية .. الصراع بين العقل والصنمية
سناك سوري – حسان يونس
إن أقدم وأبشع عملية قتل شهدتها هذه المنطقة هي قتل العقل الحر الفعال الخارج دوما عن الأطر التقليدية الاجتماعية والسياسية والثقافية .
رغم أن تبجيل العقل وإعلاء شانه، وصولا إلى عبادته من أقدم الديانات التي شهدتها هذه المنطقة، وأكثرها رسوخا، تحضر في هذا المضمار الفلسفة الرواقية التي أسّسها زينون الفينيقي في القرن الثالث ق.م وازدهرت في صيدا وصور في القرن الميلادي الأول، وفي سلوقية (التي تقع على دجلة شمال العراق) في القرن الثاني ق.م، وحدت هذه المدرسة بين العقل والإله، وارتكزت على محاور الفضيلة والأخلاق والمنطق والمساواة بين البشر، مما أفسح المجال أمام الوحدة الثقافية، التي سادت العالم القديم في العهد الهلنستي، حيث انتشرت ديانات اشترك في اعتناقها كافة العالم الهلنستي مثل الربة المصرية ايزيس والإله الروماني سيرابيس، والإله السوري أدونيس، والإله الفارسي ميثرا .
اقرأ أيضاً: سوريا التاريخية.. لا تحتقر إلهاً لا تعبده حسان يونس
في القرن الثالث الميلادي ظهرت مدرسة الاسكندرية الفلسفية الشهيرة كمنارة من منارات العقل الكبرى، استمرت خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين، ثم كانت أنطاكية وامتداداتها كمركز ثقافي خصب شمل إشعاعه سوريا كلها، وكان “مجلس التعليم” وهو المؤسسة الأكاديمية القائمة على صون الفلسفة ونشرها قد انتقل إلى أنطاكية من الإسكندرية ما بين سنة 678 م وسنة 680 م، واستقر فيها لمدة مائة وأربعين سنة، وقبل الإسكندرية وأنطاكية كانت قد ظهرت المدارس “الشرقية” في العراق التي احتضنت العلم والفلسفة “اليونانيين” مدة تزيد على عشرة قرون، ما بين موت الاسكندر سنة 323 ق م وعصر التدوين في الإسلام (القرن الثامن الميلادي) انطلاقا من كون مدينة سلوقية هي العاصمة الشرقية للدولة السلوقية.
وهناك مدرسة حران التي اشتهرت منذ أوائل الميلاد، بالعلوم الكلدانية الفلكية التي انتقلت إليها من بابل مع ما يرتبط بها من عبادة الكواكب والاشتغال بالتنجيم والسحر، إلى جانب اهتمامها بتيارات من الفلسفة اليونانية. خاصة مع انتقال “مجلس التعليم” إليها في خلافة المتوكل سنة 811م، والذي انتقل لاحقا إلى بغداد في خلافة المعتضد سنة 858م، كما شكلت حران مقراً للفلسفة الدينية الهرمسية التي تعتبر أن خلاص النفس إنما يكون بالمعرفة. واستمرت في أداء دورها الفكري بعد مجيء الإسلام حتى الاجتياح المغولي في القرن الثالث عشر الميلادي، وكان الفارابي ممن تتلمذوا فيها، لقد قام الحرانيون بدور كبير في حركة النقل والترجمة في الإسلام ونقلوا كثيراً من تراث مدرستهم العلمي والفلسفي إلى العربية .
يضاف إلى ذلك المدارس السريانية في أنطاكية ونصيبين والرها (بشمال سورية) التي لعبت دورا كبيرا في نقل الفلسفة والعلوم الهلنستية إلى العربية.
اقرأ أيضاً: الطقوس الدينية والطبيعة السورية القائمة على التنوع حسان يونس
ونتيجة كل هذا الزخم المعرفي، والتلاقح الحضاري بين الشرق والغرب، وبين المدارس القديمة والحديثة أصبح العالم الإسلامي في أوج ازدهاره الذي تحقق بفعل تأثير المدارس المذكورة أعلاه مسرحاً للصراع بين العقل والصنمية، فتم تكفير واتهام كافة الفلاسفة والعلماء المسلمين بالزندقة والشرك والإلحاد وإهدار دمائهم وتراثهم، كابن سينا والفارابي وابن رشد والكندي والرازي والجاحظ وعمر الخيام وابن الفارض والمعري، وحين حسمت المعركة لصالح تغييب العقل، بدءاً من انتصار المتوكل لصالح التيار الأشعري على التيار المعتزلي عام 816 م، وصولاً إلى إحراق كتب ابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي، حينذاك انتقل تقديس العقل إلى الغرب خلال مسار تاريخي طويل وقاسي ودموي، مر في محطات الحروب الصليبية والاحتكاك الأوروبي الإسلامي في الأندلس، لتظهر بوادره فيما عرف بعصر الأنوار والنهضة الأوروبية الحديثة التي حملت إلى الأوروبيين ديانة العقل وأصبح العلماء والمفكرين والفلاسفة الأوروبيين كهنة هذه الديانة.
في غمرة هذه الرحلة التاريخية للعقل وتأرجحه بين الشرق والغرب، هل لنا أن ننتظر عودة العقل وعبادته إلى بلادنا؟، هل لنا أن ننتظر إعادة الاعتبار إلى المفكرين والعلماء وأساتذة الجامعات باعتبارهم الكهنة الذين يسترشد بهم المجتمع والسلطة؟، بحيث لا يقاضى أستاذ جامعي مسلكياً وتأديبيا إذا ما أدلى بدلوه في مسألة تقع في صلب اختصاصه، كما حصل خلال السنوات والعقود الماضية مع أسماء كثيرة تغيب وتحضر في مناسبات عدة لتذكرنا أين كنا وأين أصبحنا ؟! .
اقرأ أيضاً: ثلاث تحولات كبرى في تاريخ سوريا حسان يونس