البعد الثالث في تاريخ المنطقة – أيهم محمود
عن الحاجة لتغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية داخلية بمعزل عن إرادة اللاعبين الاقليمين واللاعبين الدوليين
سناك سوري- أيهم محمود
لا يمكن النظر إلى أي جزئية في الواقع السوري دون الوقوع في خطأ أكيد بل وفادح أيضاً، الأمور متشابكة إقليمياً ودولياً وما ندفعه هنا داخلياً من أثمان باهظة هو جزء من أزمة عالمية أصابت الجميع وليس كما يدعي أقطاب الصراع، هذه الفرضية البدئية تجعلني أرى الأمور من منظور مختلف قليلاً عن السائد الموجود بين التيارات السياسية أو الدينية المؤدلجة.
في السرد التاريخي للأزمة السورية استطاع المحور التركي القطري إيصال نظرة الإخوان المسلمين إلى مطابخ السياسات الغربية الذين منحوهم فرصة مهمة ونادرة لإحداث تغيير سياسي لصالحهم في المنطقة العربية، فيما بعد ومع استعار نار الحرب في سوريا بدأ النموذج التركي يتهاوى وانتهت قناة الجزيرة وتشقق الحلف العربي حتى وصل إلى نهاية مسدودة عبر مقاطعة قطر التي انزاحت كلياً إلى الجانب التركي بينما تكتلت الإمارات والسعودية ومصر في محاولة للم ما انفرط من الاستقرار العربي النسبي السابق ولا أظنهم سينجحون في مسعاهم هذا بعد تغير الوقائع على الأرض وعدم صلاحية وصفات العلاج القديمة للحالة العربية، كانت هذه فرصة ذهبية لسوريا و حليفتها روسيا وليس لإيران، إيران أقرب للأهداف التركية على المدى البعيد وهما كلاهما يحلمان بوراثة المنطقة أو على الأقل أن يتقاسماها كسيدين قويين مدفوعين بإرث تاريخي قديم وهو في الحالة الإيرانية متأصل في الجينات لأنه قديم جداً ويتعلق بالهوية الفردية والهوية الحضارية للشعب الإيراني العريق، لا يمكن أن نسطّح نظرتنا أفقياً في الزمن الحالي فقط دون أن نرى البعد الثالث الزمني الممتد في التاريخ القديم الذي يُمكّننا من الرؤية ثلاثية الأبعاد لما يجري في المنطقة.
اقرأ أيضاً:الشتائم وتشخيص الأمراض الإنسانية- أيهم محمود
ليس عبثاً أن يخرج صوت مهم من السعودية يقول بوضوح لا لبس فيه أن مفهوم الخلافة محصور بالخلفاء الراشدين ومن بعدهم هم ملوك، مشكلة كبيرة إن تحققت الخلافة العثمانية مرة أخرى فهي ستطيح بسيطرة السعوديين على الدجاجة التي تبيض ذهباً حين ينتهي النفط وهي وحدها التي ستُبقيهم على قيد الحياة في صحراء قاحلة لا تستوعب مواردها ربع تعدادهم الحالي، هي مسألة بقاء وليست مسألة انخفاض في مستوى المعيشة، مسألة أن تكون أو لا تكون لذلك التعارض السعودي التركي جذري ولا يتعلق بنوع أنظمة الحكم في الدولتين أو يتعلق بالأسماء التي تحكمها في الزمن الحالي أو في أزمنة مستقبلية قادمة، لقد بالغ الإيرانيون في الضغط على المنطقة وهم يمثلون في ذاكرتها الامبرطورية القديمة التي تتدخل وتلجم القبائل العربية، لا أحد في هذا الشرق على الإطلاق يستطيع التفكير بمعزل عن ذاكرته القديمة، نحن شعوب اكتوينا من الذاكرة وهذا يجب أن يكون عنصر من عناصر تقييم أي تصرف سياسي في المنطقة.
تحديد المرض بدقة من الطبيب يعني توصله إلى وصف الدواء المناسب، أطباؤنا الاقليميون والعالميون يصفون المسكنات فقط، في العراق انتفضت المدن ذات الأغلبية الشيعية ضد النفوذ الايراني ليس لأنهم أصبحوا علمانيين فجأة ونسيوا جذرهم الديني بل لأن الفساد وعاره قد تعزز في وجود الإيرانيين ولأن الهوية الحضارية للعراقيين أعمق من الهوية الطائفية بكثير والفساد والعجز هو إهانة لهذه الهوية المتجذّرة في التاريخ، فَشِل المشروع الأمريكي في العراق لأنهم لم يملكوا النظرية التي تملأ الفراغ الثقافي الذي يهدد العالم كله وليس منطقتنا العربية فقط، في عالم التفاهة هذا لم يعد أحد يملك نظرية متماسكة حقيقية تملأ الفراغ العالمي الذي تصفر فيه الرياح، انزاح العراقيون نحو الإيراني هرباً ليكتشفوا لاحقاً أنه لا يملك غير ما ملك الأمريكي من قبله، من يستطيع حل مشاكلنا البنيوية اليومية، من يستطيع ضمان مستقبل وأمن أولادنا، من يضمن استقرارنا المالي والسياسي لنُظهر شخصيتنا وهويتنا الحقيقية، هناك مشاكل عميقة داخلية تحتاج المعالجة في كل المنطقة وليس في سوريا فقط فماذا لدى الروسي أو الإيراني أو التركي أو حتى العربي المتعاطف مع سوريا علناً أو سراً؟ لا شيء!، لا يستطيع السلاح حل المشاكل الاقتصادية بل يزيدها سوءاً، ماذا يقدم الروسي للمنطقة بأسرها غير ما يقدمه الإيراني أو الأمريكي، لا شيء عملياً، لم يعد هناك مفكرون يستطيعون ملء الفراغ النظري في العالم الحالي، البعض يعتمد على الماركسية أو يعتمد على القومية أو يعتمد على الدين أو على المفاهيم الليبرالية كوصفة وحيدة لعلاج كل الأمراض العالمية وكلها لا تستطيع أن تحل مشكلة اقتصادية أو ثقافية تافهة كما نرى في كل العالم المحيط بنا، هذه النظريات القديمة تهالكت وخرجت من الخدمة لأن العالم بكل بساطة تغير دون أن تواكبه تغيرات نظرية تستوعب ما حصل فيه حقاً.
اقرأ أيضاً:لو كنتُ مسؤولاً _ أيهم محمود
عندما احتلت فرنسا سوريا قامت بعمل هائل على الأرض من ناحية التنظيم المدني، كثير من العائلات المهمة في سوريا تعترف بالجهود الفرنسية في تنظيم البلاد الذي رفع من سويتها بعد حقبة عثمانية متخلفة، هم وطنيون ويصنفون فرنسا كقوة احتلال بغيض لكنهم يعترفون أيضاً بالانجازات التنظيمية التي تمت في عهدهم، الناس تبحث عن من يحسن مستواها لا عن من يبيعها الشعارات، الفرنسيون كانوا قوة احتلال حقيقية، أما الاحتلال الحالي للمنطقة العربية فيريدوه عبر الريموت كونترول وأول الأمثلة احتلال أمريكا للعراق واعتمادها على المرتزقة والأحلام في إدارة شؤون البلاد، بالتأكيد هذه ليست دعوة لاحتلال عسكري مباشر للمنطقة بل دعوة للدول اللاعبة فيها لتقدم شيئاً إيجابياً غير الخراب الذي تُصدره فيها أو ترحل عنها إن لم تستطع تقديم مساعدات حضارية إيجابية تساعد في تحسين المستوى الاقتصادي والعلمي لشعوب المنطقة، خلال العقود الأخيرة لم نرَ تغير إيجابي واحد قامت به هذه الدول بل رأينا سوء التقدير والهرب من التزاماتهم بعد تخريب المنطقة العربية بنظريات غير واقعية ومنها محاولات التقسيم الجديدة لها.
ضغط الايرانيون على أسوأ نابض في هذه المنطقة، النابض الطائفي مما أعاد إحياء النموذج التركي بعد أن شارف على الاختناق والموت وها هو في ليبيا قد أحدث فرقاً خطيراً – بل فرقاً بالغ الخطورة – على الرغم من اجتماع المحور العربي والروسي وبعض الدول الغربية على دعم حفتر، هذا إنذار خطير: تركيا تتحول إلى باكستان المنطقة وما حولها يتحول إلى أفغانستان وهذا أمر سيدمر في المستقبل القريب آخر أحلامنا بل سيدمرنا نحن وأولادنا وعائلاتنا، التركي ابن المنطقة وهو يتحرك على الأرض مستفيداً من فخر البعض بالنصر العسكري فقط وليس النصر الثقافي والنصر التنموي والنصر الاقتصادي ونصر السلام مقابل انتصارات الموت، سيجمع شتات المهزومين تحت رايته لاستعادة كرامتهم فماذا يستطيع الإيراني فعله غير تقديم المزيد من المبررات والمسوغات للتحرك التركي وماذا يستطيع الروسي الذي ما زال يعيش في عقدة أفغانستان ولا يجرؤ على النزول على الأرض للعمل بفكره ويديه بدل التباهي فقط بقوة سلاحه، لم يحل السلاح المعضلات البشرية عبر التاريخ بل الثقافة والعلم والسلام والأمان هو من فعل المعجزات وليس السلاح، أنا مهندس ولست بارعاً في الكلام عندما أريد تنفيذ مشروع أحتاج موارد وخطط عمل وتقييم يومي للإنجاز فما هي إنجازات قوى التدخل في أحداث المنطقة العربية بأسرها غير زيادة الحروب والفساد.
اقرأ أيضاً:إعادة بناء الهوية _أيهم محمود
لكي تُوقف أمريكا المد الشيوعي إلى أوروبا كوّنت نماذج احتواء ثقافي للموجة الشيوعية عبر إعادة إعمار اليابان وألمانيا في صورة مشرقة لا تستطيع الشيوعية مجابهتها وإقناع العالم بأن الشيوعية أفضل من الرأسمالية، كان هذا قبل أن تغرق أمريكا في الحضيض الثقافي وفي حضيض الفراغ والتفاهة، ما هو مطلوب من أي دولة لا على التعين – لم تعد الأسماء مهمة هنا – أن تضع خطة مارشال للمنطقة العربية إن كان لديها فعلا خطة ولم يكن لديهم رغبة في الحصول على مصالحهم فقط دون دفع مقابل، لدينا مشاكل اقتصادية حادة وفساد غير مسبوق في معظم دول المنطقة المنكوبة بالتدخلات الخارجية، مشاكل داخلية وليست خارجية وعلى من يريد أن يثبت أقدامه في المنطقة أن يشمر عن يديه ولا يكتفي بالتنظير وإلا سيكون مصيره مثل مصير الأمريكي في العراق.
ما يعول عليه الأمريكي بالعقوبات الاقتصادية القاسية على سوريا هو جر جميع اللاعبين فيها إلى التخبط في وحل المنطقة فهو يعرفه جيداً لأنه سبق وتمرّغ فيه، في النتيجة هم يتحاربون فوق جثثنا، فمن راتبه الشهري 20-25 دولار هو جثة تستعد للموت قد تبحث عن قشة خلاص ولو كانت عبارة عن وهم وهذا يعني تفشي مشاريع سياسية واجتماعية كارثية إن لم يكف كبار اللاعبين الدوليين عن حماقة العناد، يتقدم التركي في ليبيا وتستعد مصر لمجابهته عسكرياً وهي مديونة اقتصادياً، إن كانت السعودية لم تتحمل كلفة التدخل العسكري في اليمن وتدخلها هذا قد أنهكها اقتصادياً فما سيكون حال مصر؟ وما سيكون حال السعودية إن قررت تمويل جبهتي قتال بدلاً من جبهة واحدة؟، الظروف الاقليمية تعود إلى ما يشبه ظروف عام 2011 مع توقع شخصي بولادة داعش 2 مع رعاية كاملة من باكستان التركية، ليس أمام الأتراك سوى الاستثمار السياسي في هذا الاتجاه والذي سيقود في النهاية إلى تمزق المنطقة وتمزقهم معها لكنهم لا يرون هذا المصير بل يرون أوهاماً تتعلق بعودة خلافتهم العثمانية، الحل في صيرورة عربية تستطيع إحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية داخلية بمعزل عن إرادة اللاعبين الاقليمين واللاعبين الدوليين ولا أرى بديلاً عن هذا سوى الخراب.
اقرأ أيضاً:سوريا.. تقاسم الوجع_ أيهم محمود