الرئيسيةشخصيات سورية

“الحمصي” الذي لم تنساه “حلب” بعد عقود من رحيله

“قسطاكي الحمصي” فاتح أبواب النهضة الأدبية وأول من كتب في النقد الحديث

سناك سوري _ محمد العمر

يطالعك تمثال يتوسّط ميداناً في مدخل حي “العزيزية” بـ”حلب” لرجلٍ ولد هنا حاملاً كنية “حمص” ولم يكن لرحيله قبل عقود أن يُنسي المدينة أثره فمنحته ذكرى تخليده على هيئة تمثال في ساحة سمّيت باسمه.

“قسطاكي الحمصي” المولود في “حلب” عام 1858، حيث حملت عائلته لقب “الحمصي” بعد هجرة جده الخوري “إبراهيم مسعد” من حمص في القرن السادس عشر، إلا أن “قسطاكي” سيترك في “حلب” أثراً وذكرى تخلّد اسمه بعد رحيله. 

يصف الكاتب “ضياء كعبي” في كتابه “السرد العربي القديم” أن كتاب “الحمصي” “منهل الورّاد في علم الانتقاد” أول كتاب منهجي عربي في النقد الحديث، حيث اعتمد فيه “الحمصي” على ما اطّلع عليه من تجارب نقدية في الثقافة الفرنسية التي تشرّبها من منابعها خلال سنوات إقامته في “باريس” و “مارسيليا”. 

وإلى جانب كتابته في الشعر والنقد الأدبي فإن “الحمصي” دخل عالم الصحافة من بوابة صديقه الشاعر “إبراهيم اليازجي”، حيث كتب في مجلتَي “الضياء” و “البيان” ونشر فيهما مقالات وترجمات لأشهر الكتاب والفلاسفة الفرنسيين والعالميين. 

وقد ساهمت مقالات وكتابات “الحمصي” في إطلاع الأجيال الناشئة على ما توصلت إليه ثقافة الغربيين وعلومهم، ويذكر الدكتور “عبد الهادي نصري” في بحثه “السيرة والعصر قسطاكي الحمصي” كان يحاول فتح نوافذ مهمة على الثقافة الفرنسية والعربية في مقاربة مع موقفه من الاستبداد العثماني ومهاجمة النظام الاستعماري الغربي في احتلال الدول العربية، واتباع المستعمرين سياسة تناقض ما يعلنوه من مبادئ قامت عليها ثوراتهم وحركاتهم التحررية كشعارات الحرية والإخاء والمساواة التي كانت ترفعها الثورة الفرنسية. 

إلا أن رحلة “الحمصي” نحو الوصول إلى أن يكون واحداً من أهم أعلام الأدب الحديث لم تكن سهلة، فقد خسرَ والده منذ أن كان في الخامسة من عمره وعاش في كنفِ والدته “سوسان الدلّال” التي أرسلته إلى مدرسة “الرهبان الفرنسيسكان” في “حلب” حيث أتقن فيها علوم اللغة العربية والعروض والنحو. 

اقرأ أيضاً :حفيد المهاجر الكردي الذي أسس مجمعاً للغة العرب في سوريا

عمل “الحمصي” في ميدان التجارة حين كان في السادسة عشرة من عمره وحقق منها ثروة جيدة وفق ما يذكر الباحث “جوزيف زيتون”، إلا أن “الحمصي” اتّبع شغفه بعالم الآداب وهجر التجارة، ومع حلول العام 1875 سافر مع والدته إلى “باريس” خلال فترة انتشار الطاعون في “حلب”. 

وأكسبه العيش في العاصمة الفرنسية فرصة إتقان لغتها والاطلاع على نتاج كتّابها وفلاسفتها ونقّادها، إلا أن ذلك لم ينسيه التمسّك بثقافته العربية وتوسيع علمه بها حيث قال في إحدى رسائله إلى الشاعر “خير الدين الزركلي” أنه لم يعد يطالع في العربية إلا كتب الفصحاء ويأبى قراءة غيرها أشدّ إباء. 

تزوّج “الحمصي” من “مريم نجم” وأنجب منها 5 فتيات، وكتب في تلك السنوات أهم مؤلفاته “أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر” إضافة إلى كتابه “السحر الحلال في شعر الدلّال” والذي وضع فيه سيرة خاله الشاعر “جبرائيل الدلّال”. 

لدى عودة “شيخ أدباء حلب” إلى مدينته انتخب عضواً في مجلس معارف ولاية “حلب”، وعضواً في مجلس إدارة ولاية “حلب” ثم رئيساً للمجلس البلدي، فيما ساهمت صداقته مع المؤرخ الشهير “محمد كرد علي” في انضمامه إلى عضوية مجمع اللغة العربية. 

يرى الباحث “عبد الهادي نصري” في دراسته أن “الحمصي” شكّل مع “عبد الرحمن الكواكبي” أهم قامتين حملتا فكراً وتجديداً علمانياً ومشروعاً نهضوياً وسياسياً بصورة مبكّرة في “حلب” وجمع الاثنان إيمانهما بتحرر البلاد العربية من استبداد العثمانيين وأطماع الغربيين. 

وبعد مسيرة طويلة من الإبحار في عالم القراءة والتأليف وجهود النهضة في سبيل مواجهة الاستعمار ودّعت “حلب” ابنها “الحمصي” يوم 9 آذار 1941 حين غاب للمرة الأخيرة، ورغم أن المدينة كرّمته في ساحة “قسطاكي الحمصي” إلا أن هذا لا يلغي وجود تقصير في تعريف الشباب السوري بواحد من أعلام النهضة مطلع القرن الماضي الذي فتح باباً لم يسبقه إليه أحد في تجديد النظرة إلى النقد واتّباع المناهج العلمية والإفادة من ثقافة الحضارات الأخرى دون إنكار ثقافتنا. 

اقرأ أيضاً :“رياض الصالح الحسين”.. الشاعر الذي انتظر الثورة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى