المركزيّة التي غيّرت هوية دمشق .. واحة الفرص تركت بقية البلاد صحراءً
كيف انقسمت العاصمة بين العشوائيات والأحياء الراقية .. وموجة هجرة لأنصار السلطة الجديدة

يبدو الواقع في دمشق أكثر حدة، حيث استأثرت العاصمة خلال العقود الماضية بالنفوذ والسلطة والموارد والقرار، وكان ذلك واحداً من أهم الإشكاليات التي حكمت علاقتها بباقي المناطق السورية والتي ترسخت خلال سنوات الثورة السورية، فكانت دمشق الواحة المفترضة للفرص والعمل والاستقرار مقابل واقع سوري متأزم فرض نفسه بتباينات مختلفة بين كل منطقة وأخرى، لكنه حافظ على مشترك أساسي وهي حالة التصحر التي طغت تدريجياً على كل مساحات العمل الاقتصادي والاجتماعي والمدني والسياسي وغيرها.
سناك سوري _ بشار مبارك
في عام 1947 نشر عالم الجغرافيا الفرنسي جان فرانسوا جافيير كتابه ” باريس والصحراء الفرنسية ” والذي يعد واحداً من أهم الكتب التي فتحت النقاش واسعاً باتجاه التخطيط الإقليمي والتنمية المكانية.
في هذ الكتاب ندد جافيير بتركيز الثروة والنفوذ في العاصمة باريس، معتبراً أن النتيجة الطبيعية لتركيز الثروة هو الهجرة التدريجية من مناطق أخرى في فرنسا إلى باريس أو “تصحرها” بمعنى أدق، وقد أشعلت آراءه النقاش حول اللامركزية في فرنسا وموضوع التفاوت في النمو الإقليمي والنفوذ بين المناطق والمدن الفرنسية، وأسس هذا الكتاب لمرحلة مقاربات جديدة على صعيد التقسيمات الإدارية وقانون الإدارة المحلية والانتقال إلى مفهوم التخطيط الإقليمي في البلاد.
هجرة صوب دمشق
لم تنقطع موجات الهجرة إلى دمشق عبر تاريخها المغرق في القدم، وكانت دوماً أحد أشكال التعبير عن السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي حكم هذه المدينة ومحيطها القريب والبعيد، وصولاً إلى مرحلة الاستقلال حيث تزايدت هذه الهجرة بشكل مطّرد معبرة عن سياق جديد في تاريخ سوريا والمنطقة.

وتمثل في منحيين أساسيين الأول هو هجرة الريف إلى المدينة دون الخوض في تفاصيله ومسبباته ونتائجه، والثاني وهو الأهم وصول الريف إلى السلطة، بشكل خاص بعد تولي حزب البعث مقاليد الأمور بعد عام 1963، ممثلاً بالكثير من القيادات البعثية السياسية أو العسكرية التي حطت رحالها في دمشق مركزاً ومستقراً لحكمها، وبدأت بعملية تغيير ممنهج في بنية الدولة والحكم، كان من الطبيعي أن تحتاج فيه إلى خزان بشري كبير يكون أحد الحوامل الرئيسية لهذا التغيير والمستفيد منه والمدافع بالتالي عنه، ووجدت سلطة البعث ضالتها في مختلف المناطق السورية التي كانت تنوء بطاقات بشرية تبحث عن فرصة للارتقاء والتطور الاجتماعي والخروج من عباءة التهميش والاقصاء.
قفزت مدينة دمشق من مدينة يعد سكانها 800 ألف نسمة عام 1970 إلى ما يقارب ثلاثة ملايين نسمة في بداية القرن الحالي توزعوا بين دمشق ومحيطها الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ منها بشار مبارك
هذا المد الديمغرافي تمت إدارته من خلال قنوات عديدة ابتداءً من الجيش والأمن الذي شكّل الخيار الأسهل للباحثين عن العمل ومساحة كبيرة لاحتواء واستقطاب أعداد متزايدة بغض النظر عن الكفاءة والخبرة، إلى المؤسسات الحكومية الكثيرة الناشئة، إلى المشاريع العمرانية والاقتصادية التي افترضها تثبيت حكم البعث وتعزيز مساحة حضور سوريا على الخارطة الجيوسياسية، كل هذا عزز من القوة الجاذبة لدمشق من الطامحين والحالمين أو من تقطعت بهم السبل، فقد كانت دمشق واحة الفرص ضمن صحراء سورية بدا أنها تتسع كنتيجة لاهتمام نظام البعث الكبير بدمشق، والسعي لتأمين المتطلبات المستجدة والاحتياجات التي بدأت تتراكم على كل الأصعدة لمدينة بدا واضحاً أنها استهلكت كل مقدراتها وطاقتها الاستيعابية دون أي قدرة على كبح جماح هذا الاستقطاب الذي استتبع توسعاً أكبر واهتماماً أكبر على حساب باقي المناطق والمحافظات السورية، ضمن توجه واضح من قبل السلطة الحاكمة حينها في تعظيم قوة مركزها ليكون أداة مادية ونفسية في السيطرة على باقي المناطق والمجتمعات.
دمشق لم تعد فيحاءً
بنتيجة كل هذه العوامل قفزت مدينة دمشق من مدينة يعد سكانها 800 ألف نسمة عام 1970 إلى ما يقارب ثلاثة ملايين نسمة في بداية القرن الحالي توزعوا بين دمشق ومحيطها الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ منها، فالمد الديمغرافي استتبع مداً اسمنتياً لاستيعاب كل هذه الكثافة السكانية التي فاقت مثيلاتها في العواصم العربية، وفي ظل غياب أي سياسات تخطيط مكانية حقيقية كانت “فيحاء بردى” ضحية لواحدة من أكبر حالات التشوه العمراني ابتداءً من الغوطة التي بدأ حزامها الأخضر بالتآكل والتراجع على حسب سياسات فاشلة وعمليات فساد وتواطؤ بين السلطات المحلية وتجار العقارات ومحسوبي السلطة، بما رافقه من ضغط على البنى التحتية المتهالكة أساساً وضغطاً أشد على الموارد الأساسية وعلى رأسها مياه الشرب، حيث دخلت دمشق خطر العجز المائي الكبير بسبب الاستنزاف العشوائي لمصادر المياه السطحية والجوفية، والتلوث الذي أصاب كل شيء.
موجات الهجرة إلى دمشق لم تنقطع طوال سنوات الثورة السورية، وزادت حدة بعد سقوط نظام الأسد وقدوم سلطة جديدة، فكان من الطبيعي أن يشكل هذا السياق الجديد فرصة للكثيرين من أنصارها والمحسوبين عليها بشار مبارك
وفي مقابل أحياء وضواحي راقية احتضنت الأثرياء ومسؤولي البلاد، أغمضت السلطات المحلية أعينها عن مساحات واسعة من السكن العشوائي المنغلق على نفسه دون أي نشاط اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي واضح المعالم، والذي أصبح الهوية الجديدة لدمشق ومحيطها وأحد أكبر الأمثلة للفشل المتعمد لمحاولات التخطيط العمراني، ومشاريع الإسكان التي تحولت إلى ساحات للمضاربة العقارية وشراء الولاءات ومحاصصة الأرباح والإثراء غير المشروع.

حتى قلب المدينة التاريخي لم يسلم من شهوة الربح المنفلت من أي رادع أو مساءلة فهدمت الكثير من الأبنية التاريخية وخسرت دمشق هويتها العمرانية التي لطالما تكنت العاصمة السورية بها، مثلما تكنت بقدرتها على التعامل بهدوء وتقبل كل قادم جديد ضمن منظومة قيمية وثقافية واجتماعية مدينية عابرة لكل الهويات والانتماءات.
وبدلاً من ذلك بدأت المجتمعات المحلية التي شكلت عامل الغنى لدمشق أكثر انكفاءً باتجاه هوياتها المحلية وما دون المحلية، والإحساس بالمظلومية والإقصاء الذي حملته معها من مناطقها الأصلية، وعدم الانتماء الذي يصل حد العداء تجاه المحيط الأوسع الذي لم يستطع الاندماج معه، مما زاد من هشاشة هذه المجتمعات في ظل عدم قدرة أو عدم رغبة السلطات المحلية في إدارة وظائفها الأساسية والوفاء بالتزاماتها التنظيمية وتحمل مسؤولياتها في توفير الخدمات وإدارة الموارد بطريقة شفافة ومنصفة.
ذكريات الزمن القادم …
ليس الحديث عما مضى من تاريخ دمشق المعاصر سوى محاولة لاستشراف حاضرها ومستقبلها، في مشهد يبدو أنه يعيد نفسه بتسارع وقوة أشد وطأة على مدينة تخسر أكثر فأكثر مرونتها وقدرتها على خلق استجابات للتعامل مع الواقع المستجد لسوريا ودمشق بعد سقوط النظام.
وبدل أن تبدأ السلطة الجديدة في معالجة الجراح عمقتها وزادت عليها، بينما راحت تعلن عن مشاريع وتصورات مستقبلية تخص بها مدينة دمشق ومحيطها، في تجاهل لكل هذه التحديات والتغاضي عنها، أو كخطوة للهروب إلى الأمام بدل الوقوف على جذر المشكلة والبدء بعلاجها. بشار مبارك
فموجات الهجرة إلى دمشق لم تنقطع طوال سنوات الثورة السورية، وزادت حدة بعد سقوط نظام الأسد وقدوم سلطة جديدة، فكان من الطبيعي أن يشكل هذا السياق الجديد فرصة للكثيرين من أنصارها والمحسوبين عليها، سواء من تم استدعاؤهم لملء الفراغ في مراكز القرار ومؤسساته، أو لسد النقص المتحصل في مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والحكومية نتيجة الكثير من قرارات الفصل والتسريح التي فرغت هذه المؤسسات من كوادرها وخلقت فرصاً متاحة للعمل ستبدو أشد إغراءً من واقع مناطقهم المتهالك نتيجة سنوات النزاع الطويلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السياق المضطرب ودوامة العنف المتنقل في أكثر من منطقة على امتداد الجغرافيا السورية، سيعزز من حضور دمشق كواحة آمنة محصنة نسبياً بتوافقات تجعلها حتى اللحظة بعيدة نسبياً عن أي تداعيات أمنية، الأمر الذي سيزيد من قوة استقطابها لاسيما من المناطق التي تضررت نتيجة موجات العنف من جهة أو المناطق التي تشهد توغلاً للاحتلال الإسرائيلي وتهجيراً قسرياً لأهاليها من جهة أخرى.
تعاني دمشق ارهاصات هذا السياق الجديد والانتقال من منظومة حكم إلى أخرى، بكل ما حملته من تغييرات جذرية، وفي مقابل موجات القدوم الجديدة باتجاه دمشق، لا يمكن القول أن دمشق ستمتلك قوة طاردة لكل من احتضنتهم يوماً وأصبحوا شاءت أم لا جزءاً من نسيجها، فرغم كل ما تم الإبلاغ عنه من حالات إخلاء في التجمعات السكنية العسكرية، أو التهديدات التي حملت طابعاً طائفياً في بعض المناطق في محيط دمشق، ورغم جيوش العاطلين عن العمل، إلا أنّ الميل الأكبر لدى العائلات التي تعرضت لمثل ذلك، كان في محاولة البقاء في دمشق ومحيطها ما استطاعوا سبيلاً إلى ذلك، وهو أمر يمكن بسهولة تفهم دوافعه.
دمشق التي تقف اليوم على لحظة فارقة في تاريخها، تحاول أن تعيد فيها تعريف نفسها والجغرافيا والتاريخ الذي تنتمي لهما، تنظر إلى مشروع دمشق الكبرى، وتسأل: أي دمشق ؟!. بشار مبارك
فبالنسبة لهم كانت دمشق المستقر على امتداد عقود استثمروا فيها حاضرهم ومستقبلهم، على حساب مناطقهم الأصلية التي قدموا منها، والتي فضلاً عن أنها لا تملك أي مقومات للاستقرار على صعيد التعليم والعمل، فهي أيضاً تبقى مناطق توتر في ظل غياب أي فعل تهدئة حقيقي أو توجه من قبل السلطة تجاه المحليات لتخفيف هواجسها الأمنية والتمثيلية والاقتصادية والاجتماعية، وعليه فإن من اعتاد النظر إلى الجغرافيا السورية خارج دمشق على أنها صحراء هو اليوم ورغم كل التحديات التي يعيشها أكثر اقتناعاً بوجهة نظره التي تتعزز يوماً بعد يوم وحدثاً بعد آخر.
دمشق الكبرى … أي دمشق وأي مستقبل
ليست المرة الأولى التي ترى دمشق نفسها أمام سياق مضطرب، لكنها اليوم أمام سياق ملتهب تجد نفسها عاصمة لدولة تمزقت أوصالها، فلا تجد السبيل للملمة الجراح وشد العصب وتثبيت البوصلة في محيط دولي يزداد اضطراباً ويفرض ايقاعه وإملاءاته وتصوراته لحاضر البلاد ومستقبلها، في ظل سلطة ورثت تبعات نزاع دموي عنيف امتد لسنوات بما راكمه من خسارات ونزيف وتحديات ضربت عميقاً في بنية المجتمع السوري.
وبدل أن تبدأ السلطة الجديدة في معالجة الجراح عمقتها وزادت عليها، بينما راحت تعلن عن مشاريع وتصورات مستقبلية تخص بها مدينة دمشق ومحيطها، في تجاهل لكل هذه التحديات والتغاضي عنها، أو كخطوة للهروب إلى الأمام بدل الوقوف على جذر المشكلة والبدء بعلاجها.
لا يمكن الحديث عن إقليم دمشق إلا ضمن رؤية كلية شاملة ترى باقي الأقاليم، فلا يمكن فصل دمشق عن منفذها إلى العالم في الساحل، ولا عن قاطرتها الاقتصادية في حلب ولا عن سلال الغذاء والموارد في الشرق والجنوب والمنطقة الوسطى بشار مبارك
دمشق التي تقف اليوم على لحظة فارقة في تاريخها، تحاول أن تعيد فيها تعريف نفسها والجغرافيا والتاريخ الذي تنتمي لهما، تنظر إلى مشروع دمشق الكبرى، وتسأل: أي دمشق ؟!.
ليس الحديث في معرض الانتقاد لمشروع طرح سابقاً وفق منهجيات علمية وحلول عملية كان يفترض لو أتيح له الإرادة والموارد لوضعه موضع التنفيذ أن يخلق استجابات حقيقية للكثير من تحديات دمشق وأزماتها.
بل محاولة لطرح الأسئلة المشروعة ومشاركة الهواجس التي يفترضها مثل هكذا مشروع، فهل هذا الوقت المناسب لطرحه بالاستناد إلى ما استعرضناه من سياق، ومن الجهة التي درست ورسمت وقررت وأي دور للجهات صاحبة التخصص والخبرة، وهل كان هنالك مقاربات لما تم العمل عليه سابقاً، وأين أهل دمشق – أقلها – من مشروع دمشق؟، أما كان يجب أن يتم العمل وفق آليات تشاورية تحقق أكبر مشاركة فاعلة على مستوى الأفكار والرؤى والرساميل المجتمعية الهامة التي ستنقل هذا المشروع مستقبلاً من الورق إلى أرض الواقع.

يتم الحديث عن إقليم دمشق الكبرى والتخطيط الإقليمي المرتبط به، من خلال النظر إلى دمشق ومحيطها كمساحة واعدة للاستثمار، لا لمعالجة اختلالاتها البنيوية، وهو افتراض قد يكون صحيحًا من الناحية الاقتصادية لكنه يحمل تبعات جسيمة على الصعيد الخدمي والمؤسساتي والاجتماعي والبيئي والثقافي، حيث ستزيد هذه الاستثمارات من قوة الجذب والاستقطاب التي تمتلكها دمشق أساساً، وفي ظل الأعداد الكبيرة من العائلات القادمة للعمل ومن ثم الاستقرار، يمكن توقع شكل ومنحى هذه التبعات على صعيد اتساع السكن العشوائي الذي سيكون الخيار الأول لتأمين السكن المتناسب مع الدخل، وهو اتساع يتعدى حدود الكم والمكان إلى ما هو أخطر، والمتمثل بما يمكن أن نسميه ” عقلية الاستيطان العشوائي ” التي تنطلق من آليات التكيف وإجراءات الالتفاف على قوانين وأنظمة البناء، لتصبح ثقافة المخالفة أسلوب حياة وطريقة التعاطي مع الكثير من القضايا ضمن منطق تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، والتحايل أو افتراض القدرة على تجاوز الأنظمة والقوانين أو الاستقواء عليها.
إنّ دمشق اليوم على مفترق طرق، إما أن تتحول إلى نموذج مديني حضري متوازن متسقة مع محيطها الوطني ضمن إطار تخطيطي متكامل تنظر بمسؤولية إلى غيرها من أقاليم قبل النظر إلى نفسها، أو أن تستمر في مركزية سلطوية أثبت الواقع أنها مهما بدت فعالة ظاهريًا، إلا أنها ستبقى هشة بشار مبارك
مثل هذه العقلية ستزيد من حجم الهشاشة والتوترات المجتمعية، وفي ظل التشظي الهوياتي الذي تشهده سوريا، يمكن لنا أن نتخيل شكل هذه التوترات وطريقة التعامل معها مجتمعاً وسلطة.
وفوق كل هذه الهواجس، ما تزال حاضرة أمامنا تبعات الكثير من مشاريع التطوير العمراني التي قامت على أرض دمشق وما تسببت به من تغيير في هوية المكان وأهله، فضلاً عن تعزيز مركزية آليات اتخاذ القرار على قاعدة استرضاء رأس المال والمحسوبيات وكسب الولاءات، ، بدلًا من تبني رؤية شاملة قائمة على اللامركزية والمساواة والتنمية المتوازنة ومنح الصلاحيات للسلطات المحلية في استثمار مواردها وضمان استدامة تنمية مجتمعاتها.
إن كل ما ذكر تبقى دروساً مستفادة للتعلم منها والاتعاظ بها، والتوقف عن اتباع نفس الأساليب والآليات متوقعين أن تكون النتائج مختلفة.
ما العمل ..؟
في العقد الأول من القرن الحالي بُدأ العمل على ما سمي حينها ” الإطار الوطني للتخطيط الإقليمي” هذا الإطار الذي نظر إلى الجغرافيا السورية ككل، منطلقاً من توصيف تحليلي للاختلالات التنموية التي عانت منها سوريا طيلة عقود، ومؤشرات كمية ونوعية في مختلف القطاعات، وكان الهدف الأساسي لهذا الإطار الوطني هو محاولة معالجة الاختلال المكاني الناتج عن تركّز السكان والاستثمار في محور دمشق – حلب، من خلال اعتماد محاور تنموية بديلة وخلق أقطاب تنموية جديدة، وبناء عليه تم تقسيم سوريا إلى سبع أقاليم تخطيطية تنموية إحداها “دمشق الكبرى”، وهنا تكمن نقطة البدء، فلا يمكن الحديث عن إقليم دمشق إلا ضمن رؤية كلية شاملة ترى باقي الأقاليم، فلا يمكن فصل دمشق عن منفذها إلى العالم في الساحل، ولا عن قاطرتها الاقتصادية في حلب ولا عن سلال الغذاء والموارد في الشرق والجنوب والمنطقة الوسطى، وما عدا ذلك لن يكون تقوية للمركز بمقدار ما هو تهميش للأطراف بكل ما سيستتبع ذلك هنا وهناك.
كانت دمشق واحة الفرص ضمن صحراء سورية بدا أنها تتسع كنتيجة لاهتمام نظام البعث الكبير بدمشق، والسعي لتأمين المتطلبات المستجدة والاحتياجات التي بدأت تتراكم على كل الأصعدة لمدينة بدا واضحاً أنها استهلكت كل مقدراتها وطاقتها الاستيعابية دون أي قدرة على كبح جماح هذا الاستقطاب الذي استتبع توسعاً أكبر واهتماماً أكبر على حساب باقي المناطق بشار مبارك
خلق أقطاب تنموية على مستوى المحافظات والمدن هو الحل كخطوة أولى، فهو سيخفف من حدة استقطاب دمشق لصالح أقطاب النمو الجديدة ويعطيها الفرصة للاستثمار في مواردها ورأس المال البشري لديها الذي سيملك خيار البقاء بالنظر للفرص الواعدة للعمل والتطور والحفاظ على هويته وارثه الثقافي والاجتماعي.
وهذا يستلزم بالضرورة بيئة سياسية واجتماعية هادئة ومستقرة، ومنطق حكم تشاركي يقوم على الاعتراف المتبادل بين المركز والمحليات، بما يعني ذلك من إعطاء هذه المحليات مساحة الحضور والمشاركة والتمثيل اللازمين ضمن إطار من اللامركزية الإدارية الموسعة التي تعيد تعريف الأدوار الوظيفية لكل من المركز والمحليات وما يستتبع ذلك من سلطات وصلاحيات ومسؤوليات، ضمن إطار منظومة تشريعية واقتصادية واجتماعية متكاملة.
إنّ دمشق اليوم على مفترق طرق، إما أن تتحول إلى نموذج مديني حضري متوازن متسقة مع محيطها الوطني ضمن إطار تخطيطي متكامل تنظر بمسؤولية إلى غيرها من أقاليم قبل النظر إلى نفسها، أو أن تستمر في مركزية سلطوية أثبت الواقع أنها مهما بدت فعالة ظاهريًا، إلا أنها ستبقى هشة وتراكم أزمات كامنة قابلة للانفجار عند أول اختلال سياسي أو اقتصادي.