والنجمة إذا هوت – حسان يونس
رفضت الملكة السورية “ماوية” استعمال الدين من قبل الإمبراطورية لترسيخ دعائم الحكم
سناك سوري – حسان يونس
كان السومريون يرمزون للأم بالنجمة في داخل مربع، علما أن النجمة في مسماريتهم تعني الإله/ة والمربع يعني البيت، ما يعني أن الأم وفق ذلك هي إلهة في البيت، ثم تطور هذا المعنى إلى المصطلح الذائع الصيت ربة البيت .
وكانت النجمة السداسية المؤلفة من مثلثين متقاطعين، أحدهما قاعدته إلى الأعلى ورأسه إلى الأسفل ترمز في حضارة أوجاريت إلى فعل الأنوثة، حيث كان المثلث الذي رأسه للأسفل يمثل رمز الأنوثة (الأرض)، بينما المثلث الذي رأسه للأعلى يمثل رمز الذكورة (السماء)، وبتداخل المثلثين تبدأ رحلة الخصب والنشوة والانبعاث، وتولد الحياة.
اقرأ أيضاً: أرواد وابنتها عمريت… حاضر يذكرنا بالتاريخ
وفي الصليب المعقوف ظهر كذلك رمز الخصب الأنثوي في وادي الرافدين، إذ ظهرت أضلاع الصليب في بعض النقوش الفخارية على شكل أربع نساء تمثّل جدائلهن الأضلاع المعقوفة، وهو رمز يعبّر عن علاقة المرأة بالخصب وطقوسها ورقصاتها في استنزال المطر، ونمو الزرع، وهي رقصة لا تزال تؤديها الغجريات العراقيات إلى اليوم.
إن ظهور المرأة في الرموز القديمة كنجمة أو كمثلث في نجمة أو كأضلاع صليب معقوف له ما يبرره، قياساً للدور الحضاري الهام سياسياً واجتماعياً في حفظ التنوع والاختلاط الثقافي مع حفظ النظام في مواجهة الفوضى، والاستقلال في مواجهة الهيمنة الخارجية تحت مسميات دينية.
ففي القرن الثالث الميلادي وعندما كانت الإمبراطورية الرومانية تعيش صراعاً دموياً مثلث الأضلاع بين الديانات الوثنية والدين اليهودي والدين المسيحي الصاعد اهتمت زنوبيا بالحفاظ على حالة “التنوع الداخلي” بين السكان والثقافات، فعرفت الجاليات الأجنبية الأمان وسهولة التعامل في عهدها، وتسامحت دينياً فكان من سكان مملكتها عدد كبير من اليهود المهاجرين، بل ومُنِحوا حقّ المواطنة وازدهرت تجارتهم، فضلاً عن تسامحها مع المسيحيين إلى حدّ تقريبها الأسقف بولس السميساطي من بلاطها رغم قرار الكنيسة عزله عن أسقفيته بسبب بعض آراءه التي عُدَت كفراً.
وفي القرن الرابع الميلادي ظهرت في جنوب سورية ملكة باسم “ماوية”، اُغفل ذكرها في أغلب المصادر اليونانية والرومانية والسريانية، رغم دورها في الاشتباك المضبوط والمتكرر مع الإمبراطورية البيزنطية،
بعدما رفضت استعمال الدين من قبل الإمبراطورية لترسيخ دعائم الحكم في خضم الصراع بين الكنائس والمدارس المسيحية المختلفة، فأصرت على أن يكون الأسقف المعني بشؤون رعيتها من اختيارها وهي ظاهرة متقدمة سابقة لعصرها بألف عام، حيث لا تزال تعاني منطقتنا من النفوذ الإقليمي المتعدد والمغطى بالسلطة الدينية العابرة للحدود .
بعد حوالي قرنين ظهرت الإمبراطورة البيزنطية السورية “تيودورا”، وهي من مواليد منبج 500 م، كان لها الدور الحاسم في استيعاب والتصدي لأعمال الشغب التي اندلعت في بيزنطة خلال ثورة نيكا 532 م، حيث أحرق المتمردون المدينة ودمروا التحفة المعمارية المشهورة آيا صوفية، وكان الامبراطور جستنيان الأول يحاول الهرب من المدينة عندما تدخلت زوجته وأقنعته بالبقاء في العاصمة، والتصدي للفوضى، ويبقى الجانب الأهم من دورها أنها كانت من أشهر الشخصيات المؤثرة والناشطة في مجال حقوق المرأة، فكانت أول امرأة قاضية تدافع عن حقوق المرأة، وعرفت بارتداء ثوب القضاة المعتمد حاليا “الروب الأسود”، ما يعني أنها جمعت في شخصها قوة العدالة وقوة الحزم، هذه الثنائية المفتقدة تماما في أنظمة الاستبداد التي لا تكاد تخرج من فوضى حتى تعاود الدخول فيها.
اقرأ أيضاً: المرأة في التاريخ السوري نافذة حضارة – حسان يونس
كل هذا التاريخ النابض بالأنوثة القوية، الحكيمة، المتميزة بحس العدالة والنظام رأيناه بداية القرن العشرين يعاود الانسكاب في الوردة الدمشقية، نازك العابد، رائدة تحرر المرأة السورية .
إذ كانت أول سورية في العصر الحديث تدعو إلى تحرر المرأة، وتمارس دوراً ريادياً في المجتمع السوري المدني والأهلي، فشاركت في تأسيس الجمعيات والمنظمات كالنادي السينمائي الشامي، ومدرسة بنات الشهداء في دمشق ومكتبتها، كما ساهمت في إنشاء مصنع للسجاد كان يذهب ريعه لرعاية الأيتام، وأصدرت في أول شباط 1920 مجلة “نور الفيحاء”، وهي مجلة أدبية اجتماعية، تهدف إلى النهوض بالمرأة، وفي الثلاثينيات أسست جمعية المرأة العاملة، وميتماً لتربية بنات شهداء لبنان، كما كانت إحدى المشاركات في تأسيس الهلال الأحمر.
ورغم تحدر نازك العابد من عائلة دمشقية عريقة، إلا أنها نزعت ملعقة الذهب من فمها، وألقتها أرضا، وشاركت في معركة ميسلون ضد الفرنسيين، ثم تعرضت للنفي إلى اسطنبول، ومن ثم للجوء إلى شرقي الأردن، الذي انتقلت منه إلى الغرب، حيث مارست نشاطاً إعلامياً سياسياً هاماً في سبيل قضية وطنها، فأطلقت عليها الصحف الغربية لقب “جان دارك العرب”، وكتبت الرحالة والكاتبة الانكليزية “روزيتا فوريس” عام 1922 رواية “سؤال” عن حياتها.
رغم ذلك لم تخضع نازك العابد لإغواء المنابر والأضواء، أو لإغراء البطولة في رواية انكليزية، ولم تشأ أن تكون معارضة من الخارج فعادت إلى سورية لتخضع للإقامة الجبرية في مزرعتها في الغوطة، وعندما اندلعت الثورة السورية الكبرى 1925 شاركت فيها وقدمت الكثير لها باعتبارها من أبناء الغوطة.
اقرأ أيضاً: ثلاث تحولات كبرى في تاريخ سوريا – حسان يونس