من قال إن القناعة كنز لايفنى؟- ناجي سعيد
القناعة كنز لايفنى.. أكاد أجزم أن قائل هذه المقولة هو صاحب مزرعة يطالبه العمال بتحسين أجرهم
سناك سوري – ناجي سعيد
لقد سمعتُ كثيرًا في رحلتي الحياتية (البيت، المدرسة، الجامعة..) الجملة التي تثير فضولي: القناعة كنزٌ لا يفنى. وكنتُ أتساءل: من الذي يجب أن يقنع؟ وبماذا يقنع؟ وهي كنزٌ بالنسبة لمن؟ وقد حسمت مُخيّلتي الجواب تقريبًا: إفترضت مخيّلتي (دون البحث عن تاريخية المقولة) بأن مُخترع هذه المقولة هو صاحب مزرعة مثلاً، ولديه الكثير من العمّال، كي لا أقول عبيدًا، فقد ولّى زمن العبودية بالطبع، وقد كثرت طلبات وحاجيّات العمّال، نظرًا للأجر الزهيد الذي يسخى به عليهم، وحين صرخوا من عوزهم، كان الجواب منه قاطعًا: القناعة كنزٌ لايفنى.
وبالطبع حين يسمع العمّال هذا الجواب من شخصٍ مسؤول، سيتبادر فورًا إلى أذهانهم إسناده (للجواب طبعًا) إلى مرجع ديني أوّلاً، وهذا يساعد في دعم تبرير تخلّيهم عن موقفهم، وعدم الإصرار والتمسّك بموقف الإعتراض، وهذا التبرير بأن الردّ لا بد أن يكون مرجعه ديني، مردّه إلى معتقد بأن الدين هو المرجع الأعلم بحال الناس من عمّالٍ لا حول لهم ولا قوّة.
كي لا أقع في فخّ التفسير الشخصي الخاطئ، فقد يكون تفسير هذه المقولة من عامة الناس مُختلف تمامًا عن مقصد العلماء والفقهاء، فالمجتمع يتلقّى المعلومة ويمرّرها في نفق موروثات تربوية دينية اجتماعية، ثم يجهد بالتفسير بحسب الفهم الهجين من الموروثات التي ذكرت. فلا شك بأنّ الله ورسالته للناس – من خلال رُسُله جميعًا- ليس هدفها الخنوع والطاعة العمياء. حتّى مع تسليمنا الكامل بوجوب الطاعة للخالق التي مفادها، أن لا يشغل الناس بالهم ويبذلوا جهدهم الكامل للبحث عن الإجابة للسؤال الطفولي: مين خلقنا؟ ومين خلق الله؟ فما لم يدركه الناس، بأن الله أرسل الأنبياء لإرشاد الناس إلى طُرُق إدارة سلوكهم وشؤونهم. فلا جدوى من معرفة أمور فلسفية وجودية.. الأحرى بنا أن ننظر فيما بيننا، فقد تنكسر رقبتنا جرّاء نظرنا الدائم إلى الأعلى!!.
اقرأ أيضاً عن عُنف الشارِع والجوع وسوء السلطة – ناجي سعيد
وقد سمعت أكثر من رجل دين يفسّر هذه المقولة بأنّ لا دخل لها بعدم اعتراض أحد على الإنتقاص من حقّه المشروع. لا بلّ ذهب رجال الدين وهذا منطقي لإدارة شؤون الناس: بأن لا ينظر المسلم في “رزق” أخيه، وقد كتب الله -لحِكمتهِ- رزقاً لكلّ مخلوق وعلى الإنسان أن يبتعد عن السعي للحصول على رزق غيره. والمقولة أخلاقية المنحى، فالحسد رذيلة والقناعة فضيلة. ومن يرضى بما قضاه الله له تُفتح له أبواب الرزق من حيث لا يدري. وقد ورد في القرآن : “إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ”. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَـزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ بَصِيْرٌ”. وقد يظنّ قارئ هذه السطور إلى الآن بأنّي طالب شريعة! بينما لست كذلك، لكنّي سلكت هذه الطريق للبحث عن إجابة للسؤال: هل كلّ عارف وعالم حكيم؟ أي أن من يتبحّر في المعرفة ينال الحكمة؟ فمقولة المقدّمة هنا عن القناعة تعتبر حكمة. وبغضّ النظر عن قائلها. وفي هذه الحال نتمسّك بطرف الخيط للغوص في نقاشنا. فلو كانت القناعة حكمة، هل من الحكمة أن يقتنع “عمّال” ظلمهم ربّ عملهم بأجرٍ زهيد ويسكتوا عن المطالبة بحقّهم.
ببساطة، لو درسنا الظروف التي أحاطت بنشوء هذه المقولة، والسياق التاريخي الإجتماعي والمجتمعي، لوجدنا بأنّها ابتكرت في ظل (حكم عادل)، بعيدًا عن (الجور والظلم). بالتأكيد فحين قِيلت هذه الجملة، لم يكن الحاكم يعاني من صمم في آذانه، ولم يكن يبلغ من النرجسية حدًّا لا يعير انتباهًا إلى شعبٍ عانى ويعاني العوز والجوع.. إلى حدّ الإنتحار!!
القناعة هي الحكمة بأن يرضى الإنسان بحصّته التي ينالها من “عرق” تعبه وجهده، وعدالة حاكمه. بغضّ النظر عن قسمة الأرزاق الإلهية. فقد خلقنا الله ووضع في رؤوسنا عقلاً ندير شؤوننا من خلال استخدامه. لذا يجب أن لا نربط بين المعرفة، وهي تجميع المعلومات دماغيًّا، وبين الحكمة وهي كيفية استخدام هذا الدماغ الذي كوَّن المعرفة. والخوف من أن يكون تجميع المعرفة هو تكديس المعلومات دون الإستفادة منها لاستخدام الحكمة.
ولو ذهبنا قليلاً إلى فكرة التمسّك بمعتقد ما، حيثُ أُخذ هذا المعتقد من معرفة، فهل يخطر ببالنا أن لا يلجأ “العارف” إلى مهارة التفكير النقدي؟ فيقع في فخ الجمود الفكري الذي يطبخ “الأيديولوجيا” على نيران العاطفة الأبدية. والتي لا تجرؤ على نبذ العادات والتقاليد الإجتماعية، وكلّ هذا برابط عاطفي يغلّب القلب على العقل تمامًا. وما أطرحه قد يطال السلطة (أي سلطة) قبل الشعب، فلو كانت مشكلة الشعب هي سوء استخدام الدماغ ممّا يؤدّي إلى نقص معرفي عندهم، فمشكلة السلطة “العارفة” هي سوء استخدام الدماغ أيضًا والتي تؤدّي إلى نقص في الحكمة، وهنا تقع الكارثة، شعبٌ عارف لا يحكم، وسلطة لا تعرف الحكمة..
وأنا أؤمن بحكمة حبّ الناس ، فوالدة الشاعر سعيد عقل كانت تقول له:
“اليوم اللي بيمرق وما عم بتحبّ فيه الناس، بتخسره من حياتك”.
اقرأ أيضاً الشباب ثروة وثورة – ناجي سعيد