يمكنني البدء بحديثي عن والدي “يوسف” بأنّه عصامي، والعصامي بحسب تعريف الويكيبيديا هو: ” الشخص الذي بنى نفسه بنفسه بدون أن يعتمد على نَسَبِه أو على أي شيءٍ آخر سوى ذكائه وقدراته الذاتية”.
سناك سوري-ناجي سعيد
ويرجع مصطلح عصامي إلى عصام حاجب النعمان الذي أصبح ملكاً لعلوّ همّته وحُسن تدبيره وقوّة عقله بعدما كان مجرّد حاجب.. وعكسها العظامي الذي يتّكل على نَسَبِه ويتعاظم بآبائِه وأجداده .”حيث كان قد أخبرني أبي بأنه حين كان مراهقًا، تعلّم القراءة والكتابة في مدرسة لمحو الأمّية. وبعد أن قضى طفولته في الفرن، عاملًا مع والده الطيّب فاعل الخير، الذي كان يقسم رغيف الخبز -في أزمة مرّ بها لبنان على ما أعتقد في القرن الثامن عشر- بين عائلته وعائلة جيرانه الفقراء.
وكان هذا الجو الإيجابي التربوي، لاعنفًا في الفطرة. فمن أسس اللاعنف “حبّ الخير ” لكلّ الناس، وظهر هذا الحبّ للآخرين حين كان يوسف “يتكارم” فيزيد الأرغفة للزبائن الذين يستحقون من عوزٍ، وغالبًا ما كانت تغضب زوجته “أديبة”، حيث كان اسمها “ديبة” فزّود ألفًا على اسمها بعد أن تزوّجا. كموقف من معنى الاسم، ليتحوّل من ديبة (كاسم تقليدي يرمز إلى حيوان مفترس) إلى اسم يعكس صفة الأدب والعلم على حامله!.
ومن ثمّ كانت رحلته النضالية بالفرن بمساعدة زوجته، التي أذكر أنها كانت تهتم بفطورنا ولباسنا وكتبنا في الصباح الباكر قبل ذهابها إلى الفرن لمساعدة أبي. فمفهوم الشراكة والتفاهم في الزواج تجسّد في نضال رفع رايته “يوسف” المناضل اللاعنفي بالفطرة. نعم لاعنفي، ولا أحتاج لترخيص أو قراءة ما يشير إلى “لاعنفيّة” أبي. فتجربته بالحياة النضاليّة كان قوامها حرّية رأيه وخياره، دون تبعيّة لفئة أو طائفة، أو أيّ هويّة جماعيّة.
اقرأ أيضاً: المراكب.. يأس من الحياة لدرجة تعريضها للموت – ناجي سعيد
كان أبي مُتفرّدًا بتميّزه ولغته المحكيّة التي تلذع بنقدٍ اجتماعي وسياسي وديني أحيانًا، وكان نقده مرتكزًا على قراءات معمّقة، فحياة أبي كانت عبارة عن: الفرن، القراءة وحُبّ العائلة والناس. وكان يحمل “خفّة دمّ” وريثة عائلة “سعيد”، فقد اشتهر شقيقه الأكبر “أسعد” (الشاعر الزجلي المعروف) بالمواقف الطريفة في شعره، الذي كان ينمّ عن سرعة بديهة تنتج “هضامة”.
ومن أكثر المواقف التي أخبرنا عنها، وانتشرت في قريتنا، أنّ من عادات أبي أن يقرأ الجريدة، أثناء سيره في الطريق، فاصطدم ذات مرّة بإمرأة وكانت سمينة، فصرخت به: هيييييه شو مش قاشعني قدّ تنين أنا!! فردّ سريعًا: مبلى، ما أنا قلت بمرق بيناتن!!! هذا عدا عن قصّة ختمه للقرآن، فقد كان من عائلة فقيرة طبعًا، وطلب من والده أن يشتري له الجزء الأوّل من دكّان الحاج ياسين، وسهر الليل بطوله لقراءته، وفي الصباح طلب من والده استبداله بالجزء الثاني.. وهكذا حتّى ختم القرآن.
واستبدل الجزء الأخير بصابونة من الحاج ياسين، فالحاج لا يعيد المال المدفوع. ناضل في شبابه مع عمّال المخابز، حيث عَمَله، وكان يعارض ظلم وفساد أصحاب الأفران. وكان يقود المظاهرات بمواجهة ظلم الحكومة.. وقد أعجبه الفكر الشيوعي الذي يناصر الفقراء فقد كان من البروليتاريا، وكان قد كتب قصيدة نقد لاذعة لرئيس الحكومة الراحل “صائب سلام”، وكان مطلعها: “يا حبيب الشعب يا صائب سلام.. وحين قرأ المطلع صاحب الجريدة قال: أسف لن ننشر هذا .. فقال له أبي: لو سمحت أكمل قراءة! فحين أكملها، أعجبته بالتأكيد ونشرها فورًا.
وقد سُجن بعد أن اعتقلته السلطة في إحدى المظاهرات، وتابع توزيع “المناشير” داخل السجن. أبي لم يدخل جامعة، ولا يحمل شهادات، لكنّه حرص أن يتعلّم أبناؤه السبعة ليحملوا همّ النضال المجتمعي، لا “ليبروزا” شهاداتهم ويعلّقوها على الحائط.
واللاعنف استنتجه من رجاحة عقله، لا من تراث المناضلين اللاعنفيين. وأذكر حين كنّا صغيران أنا وأخي، كيف أجلسنا أمامه وصفعنا، وبعد أن كتمنا بكاءنا، قال: أودّ أن أختبر ردّة فعلكما حين تتعرّضان للضرب من أحد. وكانت حادثة حفّزتنا لأن نستخدم عقلنا ونفكّر قبل أن ننفعل.
تجاوز أبي التسعين، ولم ينته شغفه بالقراءة وتأليف الشعر والمزاح باللعب بالكلمات. وحين تسأله عن عمره، يقول: على الهويّة، أنا من مواليد 1931، أمّا الحقيقة فأكثر، حيث كان تسجيل المولود حينها يتأخّر سنتين أو ثلاثة للتسجيل في دائرة النفوس. يموت البعض من كثرة الأيام، والبعض الآخر من شدّة العمل، أمّا أبي فقد ترك شدّة العمل وكثرة الأيام ورحل مبتسمًا، مؤدّيًا واجبه الإنساني. فقد ترك أثرًا طيّبًاـ وكما يقول الصينيّون: أريج الزهرة يلتصق باليد التي تقدّمها.. لقد قدّم أبي وروردًا لهذه الحياة، لتفوح رائحة جميلة إنسانيّة. وعذرًا محمود درويش: فأنت يوسفٌ يا أبي.