الرئيسيةرأي وتحليل

لا تبني ثقافتك على معتقدات خاطئة واتبع عقلك – ناجي سعيد

ما الذي جعل الغرب يسبق الشرق بأشواط عقليّة؟

خلال ورشة تدريبيّة تلقيّت في التسعينيّات أثناء عملي كمدرّس للتربية الفنّية في المملكة العربية السعوديّة (مُرغمٌ أخاكَ لا بطل)، معلومة مُهمّة مُختصّة في مجال “إدراك العالم”. وبالإجابة على سؤال: كيف نُدرك العالم؟ يقول المُدرّب استنادًا إلى مراجع علميّة: الحواسّ / اللغة/ المُعتقدات والقيم. والحواس هي المدخل الحسّي لتشكيل المعتقدات والقيم عبر جسر اللغة.

سناك سوري-ناجي سعيد

وهذا المدخل يضمن فهم مُشترك للعالم الذي تُفضي طبيعته إلى اللاعنف وبالتالي إلى العالم اللاعنفي. ولكنّ الفخّ الذي يُسقط “إدراك العالم” اللاعنفي هو صنيع نفس الطريق. فالحواس معرّضة لعتبات وخداع. فمن لا يعرف مفهوم السراب! حين تُمطر وتتبلّل الطريق بالماء، يعكس ضوء الشمس على سطح بُقعة الماء خيالاً، تجعل الرائي يعتقد أن الطريق فيه حفرة ماء! وحين يقترب الرائي بسيارته يكتشف بأنّها ليست حفرة! بل هي انعكاس لضوء الشمس على بقعة الماء في الطريق.

وعلى مستوى حاسّة السمع، كثيرًا ما نتوهّم صوتًا بأنّه شيئًا خطيرًا لنكتشف بعد التحقّق صوتًا آخرًا عادي التأثير! وفي المنحى العلمي، فمن المُفترض أن تكون الغلبة في إدراك العالم للحواس التي ترسم مسار الفلسفة التجريبيّة، فلا يوجد معتقد نظري إلّا بعد تجربة حسّية. وهذا مسار القارّة الأوروبّية التي سارت وراء الثورة العلمية الفرنسية والتي تُعيد بعض المراجع نشأتها إلى بريطانيا، والتي كانت وراء الكثير من الابتكارات العلمية التي عكست انفتاح الناس على حقوقها الاجتماعيّة الاقتصاديّة.

واتفق المؤرخون الاقتصاديون على أن اندلاع الثورة الصناعية هي أهم حدث في تاريخ البشرية منذ تدجين الحيوانات والنباتات، ونشرت الثورة العلمية “طمعًا فرديًّا” مالَ بحجّة حقوق الأفراد إلى نشوء الطبقة البورجوازية والفكر الرأسمالي. وهكذا قفز المسار الحسّي إلى إنتاج فكر رأسمالي، ولّد أنظمة قسّمت العالم بين الرأسمالية والاشتراكية. مع أنّ حُبّ “طارق” لـ”فلوديا” كان طريقه لكره الإمبريالية دون أن يعرف بأن نشوء الإمبرياليّة أتى عن طريق الرأسماليّة. فلو سمح طارق للعالم الحسّي أن يسير بعفويّة دون المعتقد الذي اعتنقه في النضال ضدّ الإمبرياليّة لأدرك العالم دون تدخّل الإيمان الاعتباطي بطريق الحواس التي جعلته عاشقًا لفلوديا!.

اقرأ أيضاً: بسبوس عاشق بسة… تفاهة العمق وعمق التفاهة – ناجي سعيد

لكنّ إيمانه بالمُعتقد الاشتراكي كان عن طريق القلب لا العقل، وهذا الطريق الخاطئ للمعتقد. فعلميًّا العقل يُقرّر للإنسان ما يؤمن به، والقلب يجعل الإنسان يُحبّ ذلك. فالحواسّ إذًا تجعل الإنسان يُدرك العالم لا العقل والقلب الذي يُنتج جهدهما المُعتقدات والقيم، بعد اختبار حسّي ملموس. الفكر اللاعنفي نتج عن إدراك ووعي عقلاني فحتّى الحيوان التابع لحوّاسه، دجّنه الإنسان العاقل!.

وقد قرأت قصّة في طفولتي عن فتاة تصادف أسدًا من المعروف بأنه مُتوحّش، ولكنّ حين لم تخف منه وتواجهه كان مُسالمًا! فهناك مثل إنكليزي يقول: “الخوف يستجلب الوحوش”! نعم الحواس لا تصدر الخوف، إنّما المُعتقد الخاطئ يفعل ذلك. أنا لا أبني ثقافتي على مُعتقدات خاطئة، فاتبع عقلي وأُحكّمه دون أن أتبع قلبي وحيدًا. فالثقافة الشعبيّة تقول بأنّ الحُبّ أعمى! هو أعمى لو لم يساعده العقل في معرفة الصواب.

وللأسف، فالمصدر الثالث لإدراك العالم هو اللغة، وأيّ لغة؟ اللغة من مصدرها العلمي، وليست اللغة المتناقلة بالتواتر، فالتواتر ينقل الإشاعات الكاذبة من لسان لآخر، وبما أنّه طريق أسهل فهو يُغني الناس عن التفكير وعمل العقل. اللاعنف هو إحساس عقلاني، وليس عمل حسّي مُنفرد دون تشغيل العقل، وهذا ما جعل الغرب يسبق الشرق بأشواط عقليّة. والعلم الذي أؤمن به يقول: حين ألمس بيدي سطحًا ساخنًا، تشعر حاسّة اللمس بالساخن، ليمرّ الشعور عبر الأعصاب، فيُدرك العقل ليعطي الأوامر لليد بالابتعاد عن السطح الساخن، فتتصرّف لتبتعد. الحواسّ تُشعر بخطر العنف، ليُفكّر الإنسان ويتصرّف بالابتعاد عن الخطر ليحمي ذاته، ولا يرمي نفسه في النار، وهذا هو الوعي الذاتي.

اقرأ أيضاً: الإعدام.. نقتل إنساناً لنخبره ألا يقتل أحداً – ناجي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى