الرئيسيةحرية التعتيريوميات مواطن

ليلة في المستشفى.. حوار الجنة والنار

تغادر “سها” المستشفى دون أن تكترث لحراس “الجنة” و”النار”، بعدما دخنت سيجارة، وشربت فنجان قهوة بانتظار النوبة العصبية القادمة

سناك سوري – سناء علي

«إذا كنت رح أدخل الجنة كرمال هيك، فما بدي ياها»، تقول “سها” وهي تشير إلى طرف كمّ قميصها الطويل، الذي ارتفع قليلاً فوق المعصم، تحاول أن تمّثل الوضعية التي كان عليها الكم عندما نهرتها “أم صبحي” قائلة لها: «ليش عم تشمري عن إيدك، يا “سها”، بكرة بتدخلي ع جهنم، نزليها مشان تفوتي عالجنة»، لتجيبها الفتاة التي كانت عائدةً من رحلة البحث عن دواء لأمها، في ذروة الحرارة، بالكلام السابق.

تبدو “سها” الهاربة من الحرب في منطقتها الواقعة في أقصى الريف الشمالي الشرقي لمحافظة “اللاذقية”، والتي لم يبق فيها حجر على حجر، كما قالت، أكبر من عمرها الذي لم أسألها عنه، فالفتيات لا يحبّذن هذا السؤال، تعاني من مشاكل في أسنانها، بسبب أقراص الدواء الذي تتناوله منذ مدة طويلة، بعد إصابتها بمرض عصبي، لم تخفه كما يحاول البعض ولكنها لم تسمّه، ربما لأنها لا تعرف اسمه، وتكتفي بالقول إنها تصبح كالديك المذبوح الذي يرقص من شدة الألم، عندما تأتيها النوبة العصبية، وأحياناً يُغمى عليها، وتبقى هكذا لمدة ساعة ريثما تهدأ، بينما تسببت أقراص “الكيرباتيك”، بزوال العديد من أسنانها.

اقرأ أيضاً: منزلي في “حرستا”.. لم يبقّ منه سوى كأس ماء بارد أنعشني رغم المرار!

تسألها “أم عدنان” المرأة السبعينية، القادمة من الريف الغربي للمحافظة، عن عملها، فتضحك الفتاة باستهزاء: «وشو بدي اشتغل يا خالتي، وأنا مريضة بهيك مرض»، «ما بتشتغلي بحواش الليمون؟؟» تبادرها “أم عدنان” باعتبارها واحدة من أمهر النساء في العمل الزراعي، تذهب مع مجموعات من النسوة أغلبهن من النازحات لقطاف الليمون، أو الزيتون، أو أي موسم آخر، تمد أنابيب التنقيط أيضاً، تحفر الحفر الزراعية، وتقلم الأشجار.

«شو ما صرلي بشتغل، لأن نحنا إذا ما اشتغلنا ما مناكل» تعرّف المرأة السبعينة عن نفسها بطيبة قروية مفرطة، مجبولة بفخر واعتزاز بأنها لا تحتاج أحداً، حتى أولادها الثمانية، فهي تأكل من عرق جبينها، وترعى ولدها ذي الخامسة والأربعين سنة، والذي فقد السمع صغيراً، إثر إصابته بالحمّى، دون أن تستطيع علاجه بسبب الفقر المدقع الذي كانوا عليه، كما قالت.

«أنا بدي أشتغل بالليمون؟» تجيب “سها” بنوع من التعالي على المهنة، في دلالة على تجذّر مفاهيم محددة للعمل، راسخة في نفوس أبناء الفقر الواحد، فتتخطى “أم عدنان” الأمر الذي بدا وكأنه إهانة لها ولقريناتها، مع يقينها الفطري بأن الفتاة لم تقصد ذلك، ولكنها العادات، وتسألها: «ليش إنت دارسة، لحتى تتوظفي؟»، لتكشف “سها” عن معاناتها الكبيرة، عندما أخرجها والدها المتوفى، منذ أن كانت في المرحلة الابتدائية، والسبب أنه كان يتوجب عليها الذهاب مع “الصبيان”، دون أن تنجح توسلاتها في تغيير رأي الوالد.

اقرأ أيضاً: هل سمعت الحكومة صرخة “بشير” الذي قال: “أنا بردان بردان”؟!

تنظر الفتاة التي لم تتوقف عن التلفظ بالشتائم، دون أن تستمع لكلام أمها المريضة، إلى فتاة أخرى، ترتدي “التيشيرت النص كم”، وتقول لها متحسرة: «نيالك، فينك تلبسي يللي بدك ياه، بهالشوب، أنا ما بقدر، أخواتي ما بخلوني»، إضافة إلى “أم صبحي” التي لا تكف عن نهرها، كلما مرت من أمام دكانها، بحجة أنها “بتمون عليها وتحبها، وتتحدث لصالحها”، بينما لا تبيعها حتى “علكة” بالدّين عندما تحتاج، على عكس العم “أبو حسين” الذي يوصل لها الخبز إلى الغرفة الصغيرة التي استأجرتها مع والدتها في أحد أحياء المدينة بمبلغ 12 ألف ليرة، لا تملك منه الفتاة شيء، بل يدفعه إخوتها الذين لم يأتِ أحدٌ منهم مع الأم إلى المشفى، بل أرسلوا اسم الطبيبة على ورقة، لأن “سها” غير قادرة على التركيز.

«ما تركت طبيب عصبية، أو شيخ يعتب عليي»، تواصل الفتاة سرد قصتها، دون أن تستفيد شيئاً، سوى أنها تستطيع التدخين، لأن الأطباء حذروا أخوتها من إزعاجها، ما قد يفاقم من مرضها، «لوبإيدهم ما كانوا خلوني أدخن»، تضيف الفتاة التي لا تكفّ عن الدعاء على المرأة التي تسببت لها بالمرض، حيث وضعت لها إحدى جاراتها “حرزاً” في كوب الشاي، كما تقول دون أن تذكر السبب، بينما تحاول أمها تهدئتها، بشتى الطرق، دون جدوى.

اقرأ أيضاً: يوم سوري.. الحياة مرت من هنا سابقاً!

الأم حكايةٌ أخرى، بـ85 عاما، ووجهٍ حفر الزمن عليه بقوة، تحنّ إلى بيتها في القرية الذي غادرته منذ 6 سنوات، مع الهواء العليل، والأشجار المثمرة التي احترقت كما أراضي القرية كلها، بفعل الحرب، دون أن تفقد طيبتها هي الأخرى، إنها تشبه “أم عدنان”، تحمد الله بين كل جملة وأخرى، بينما تتحدث عن “غباشة” أصابت عينيها، وقد أتت إلى المشفى “مشان يقشوها”، كما أصابت الحرب حياتها، بـ”غباشة” كبيرة، قد لا تتمكن من “قشّها” قريباً.

تسأل “سها”عن مكان تشتري منه فجان قهوة، فقد حان موعد السيجارة، فتبادر “أم عدنان” إلى إرسال حفيدها اليافع ليجلب لها فنجاناً كضيافة، ما أدخل السعادة إلى قلبها بعدما تحالفتا كثيراً من سيدفع الثمن لتفوز “أم عدنان”، بالقول: «طول عمره الجار للجار»، مع أنها لم تعرفها سوى منذ دقائق معدودة.

يحين دور والدة “سها” لتلقي العلاج، تذهبان إلى الطابق السفلي، بصحبة الطبيب الشاب الذي لم يكف عن الابتسام في وجهيهما، والدعاء للخالة بالشفاء، ما زاد من سعادة “سها” أكثر، والتي غادرت دون أن تكترث فيما لو كان كم قميصها مرتفعاً قليلاً، فـ”أم صبحي” لا تجلس في أحد ممرات المشفى، لتراقب من سيدخل إلى الجنة، ومن سيتوجه إلى النار، التي قد لا تستطيع “سها” أن تفكر بها كثيراً، خاصة عندما تأتيها نوبة عصبية، تجعلها ترقص كالديك المذبوح، مع أنها تحلم كأي فتاة أخرى، بأن ترقص في ليلة زفافها، فرحاً لا ألماً.

اقرأ أيضاً: عن الثمانينية التي جسدت معنى “الله يساعد يلي مالو حدا”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى