حياة المواطن تبدو اعتيادية بعد كل اعتداء إسرائيلي، ويظهر إيقاع المدن الرتيب بشكل لا يترك أي شك بأن ما يجري سيعبُر في النهاية دون أي أثر يُذكر
سناك سوري-مازن بلال
تنمو ثقافة مختلفة على هامش كافة التفاصيل بما فيها الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، ولأننا مغرمون بالعناوين فإننا لا نجد بين حروفها سوى التسلسل العام الذي يشير للحدث، بينما شكلت الحرب عموما ظلالا مختلفة للمفاهيم التي نشأت عليها سورية منذ “رحيل العثمانيين” وحتى اليوم، فدولتنا الحديثة رغم التحولات المختلفة التي عاشتها، لكن الحرب الحالية تركت قضايا عابرة على سطح الحدث، لكنها تثير في عمق تفكيرنا شكلا من العبثية تزيح كل الرمزية لوجودنا التي كنا نحتفي بها.
عمليا فإن حياة المواطن تبدو اعتيادية بعد كل اعتداء إسرائيلي، ويظهر إيقاع المدن الرتيب بشكل لا يترك أي شك بأن ما يجري سيعبُر في النهاية دون أي أثر يُذكر، ولكن المقاربة الحقيقية هي أن سورية تكرر دورة الانتقال الثقافي التي شهدتها منذ فجر التاريخ، وإذا كان هذا الانتقال سابقا يحمل أطوارا حضارية متباينة، فإن الزمن المعاصر لا يدل على أي تصور قادم، بل مجرد ظواهر متفرقة حملتها الحرب، فالضائقة الاقتصادية أو “تشتت الأمن” في بعض المناطق (إدلب على وجه التحديد)، وحتى عدم القدرة على تحديد مسارات جديدة للحل السياسي والحوار وغيرها؛ يطرح مقدمة لتكوين مختلف يسميه المحللون السياسيون بالنظام الإقليمي الجديد، أما على الصعيد الاجتماعي فيختلف تماما لأنه لا يحمل من “الجديد” سوى الاسم، ولا يقدم أي رؤية ممكنة لتوجه يمكن أن يتجاوز ما حدث خلال السنوات الثماني الماضي.
يطرح خبراء التنمية مجالات مختلفة للآليات الاجتماعية الممكنة، ويرون أنها تقدم حلولا تتكامل مع المفاهيم السياسية القادمة، وأنها سترمم الحلقة المهشمة ما بين سورية والعالم، وبغض النظر عن قدرة عمليات التنمية على تجاوز أزمة السوري في وجوده بالدرجة الأولى، لكننا عمليا نواجه إشكالية المساحة المشتركة التي تضمنا، فالتحولات التاريخية كانت تطرح ثقافة جديدة، بينما اليوم هناك “علاقة” فقط لا تستند إلى ثقافة محددة، فهي علاقة ظل ثقافي يقفز على إيقاع علوم ما بعد الحداثة، ومن الصعب التجاوب معها ضمن الحلول التي تقدمها تقنيات التنمية فقط.
اقرأ أيضاً: الإعلام.. بناء الشغف – مازن بلال
في عالم يتصارع على مجالات خارج الجغرافية فإن الأزمة السورية لا تحتاج لحلول بل لخلق، والتنمية فيها تتطلب الخروج من مسارات حالات التعليم الاعتيادية إلى فهم مختلف يعطي الاعتبار لضرورة احداث شكل نوعي، يبدأ من تحررنا من عقدة الجغرافية بأنها وطن فقط لتكتسب فضاء آخر لا نكتسبه إلا بعلوم مثل الفيزياء الكمومية لأنها تشكل أكثر من قوانين وتطرح فلسفات تؤثر على تفكير العالم (الفوضى الخلاقة أحد منتجاتها)، وعلوم المعطيات الضخمة (Data science) التي تفتح الأفق لفهم عمليات التحكم الثقافي التي تقودها الشركات الكبرى.
المجتمعات المحلية في ظل الثقافات التي تتشكل حاليا ليست وحدات إدارية بل مختبر لصياغات نظريات اجتماعية جديدة، والتنمية غدت دفع الإنسان نحو علوم لا يمكن تفسيرها (الكموم) بل يمكن تشكيل تقنيات منها، فالبوابة التنموية ربما تقتضي كسر المعادلات القديمة عبر فهم العالم من جديد قبل العودة لتقنيات تنموية قادرة على رسم أفق لسورية.
اقرأ أيضاً: التنافس.. مساحة المجتمع – مازن بلال