
سناك سوري-لجين سليمان
كُتب على تلك المدينة أن تشوّه، فلم يكن نموّها كباقي المدن، وكلّ طريق جديد كان يشقّ وكأنّه يُشقّ في قلبها، وكل بناء عال وكأنه يجثم على صدرها ليكتم أنفاسها، وكأن ذاك الذي أريد له أن يسمّى “تطوّرا” كان عبارة عن سلسلة من الهزّات الأرضية، موجات متتابعة من الزلازل لم تأتِ لتدمّر وحسب، بل لتعيد فرز الأحياء وتقسّمها.
فنشأ تصنيف جديد يسمّى “رابحا-خاسرا” أو “مدمّرا وعامرا”، هو فرز يأتي على هيئة عشوائيات وأحياء فخمة، كأنّ ذلك التطور الذي هو بمثابة “صدع زلزالي” قسّم المدينة إلى أبو رمانة والدويلعة، المالكي ومزة جبل، المهاجرين و الجادات السلمية، لتنمو فوق تلك العمارات الخائبة مئات من القصص التي شكّلت اجتماعا عمرانيا يستحقّ نظرة أخرى.
موجوعة هي تلك الشوارع، مهمومة تلك الطرقات، ربما حتى أكثر من أبنائها، ولذلك فهي تحتاج إلى من يعرف منشأ ذلك الوجع، ليشخصه ويوصّفه ويعطيه علاجا، وهناك بالفعل ثمّة من غاص عميقا، ليكتشف أن الدواء يبدأ من علاج ذلك الإنسان المقهور، والذي راكم آلامه إلى أن وصل الحال إلى ما نراه اليوم، هناك ثمّة من اكتشف أن تلك المدينة تحتاج إلى من يتحدّث معها، لأن كلّ ما أصابها لم يكن لها يد به، لم تُسأل عنه يوماً، هي كالفتاة التي تزوّجت بسنّ الرابعة عشر دون أن تُسأل عن رأيها، فتنجب أطفالاً تفشل في تربيتهم، تماما كما هو الفشل في دمشق عبر سلسلة من الأعمال الهدّامة التي أفضت إلى واقع عمراني غير منسجم أنتج مشاكل اجتماعية وأمراضا وآفات.
اقرأ أيضاً: كاتب سوري ينتقد ليالي دمشق.. هل أصبحت كابول أو قندهار؟
هي نظرة معمارية جديدة بدأها مختبر “IWlab” في دمشق، الذي انطلق عمله عام 2009، محاولا الدمج بين البرامج الثقافية والفنون والدراسات الحضرية والتراثية للترويج لنموذج من الممارسة المعمارية التي تفاوض بشكل فعال وتشارك في المدينة، للخروج من الصورة النمطية للمهندس المعماري، فهندسة العمارة برأيهم ليست عبارة عن عمليات متتالية من الهدم والبناء، أو حتى الترميم، بل هي معالجة اجتماعية من خلال تحديد مكامن المرض في الجسد العمراني للمدينة، هذا هو ما قام به فعلا الدكتور “اياس شاهين” مؤسس مشارك في هذا المختبر بالتعاون مع الدكتور “محمد وسام العسلي”.
يتحدث الدكتور “شاهين” لموقع “سناك سوري” عن أحد مشاريع المختبر قائلا : «عملنا على مشروع جسد، وهو عمل معماري اجتماعي ينطلق من ضرورة تقييم الوضع الراهن في مدينة دمشق، فصوّرنا المدينة على أنها جسد، وبدأنا بتحديد أوجاع هذا الجسد، ليظهر لنا الكثير سواء ما هو عبارة عن مرض اجتماعي أو اقتصادي أو حتى قانوني».
وحول العشوائيات، تلك الأحياء التي توصّف وتقيّم على أنها مرض خطير، كان لمختبر “IWlab” نظرة مختلفة، إذ رأى الدكتور “شاهين” أنه من الصعب جدا هدم هذه العشوائيات وإعادة إعمارها بالكامل ولذلك فإنه ومن «الأكثر جدوى إعادة التأهيل الاجتماعي لساكني تلك المناطق، بحيث يرتقون بواقعهم العشوائي إلى ما هو أفضل، لأنه دائما وأبدا من الأفضل إعادة تأهيل الإنسان، فهو أكثر إنتاجاً من إعادة تأهيل الحجر».
بُني المختبر بشكل أساسي على ثلاثة محاور وهي، (مكاني) يتعلق بأثر الممارسات المعمارية والعمرانية على العدالة البيئية والمكانية للمدينة، (منهجي) يتعلق بدراسات التراث والحرف الانشائية، أما المحور الثالث فهو (أكاديمي) يتعلق بالتعليم المعماري، للتفاعل مع طلاب العمارة والمعماريين حديثي التخرج.، بحسب “شاهين”.
ثم يأتي مشروع “مسرح معماري” الذي تضمّن مجموعة من الفيديوهات القصيرة والتي تجسّد واقع المدينة بكاميرا فنية تحاور المتلقّي، تظهر مشاهد من غير الطبيعي أن توجد في عاصمة كدمشق، تلتقط تلك العدسة ما نراه كل يوم في الشوارع وننظر إليه على أنه عادي وطبيعي، فتقول وبطريقة غير مباشرة “كلا إنه ليس طبيعيا، ربما هذه ليست دمشق”.
صدر عن المختبر مجموعة من الكتيبات الخاصة بكل مشروع، والتي كانت تتناول أفكار المشروع بطريقة غير تقليدية ومبسطة، بحيث تُقدّم الأفكار للطلبة بطريقة واضحة.
لم تزل دمشق تجمع محبيها حولها، على الرغم من الحروب التي مرّت وتمر، إلا أن لتلك المدينة أهدافها، فهي وبفطرتها تريد الاستمرار بجميع ما يحيط بها من تناقضات، كي تثبت بأنها دمشق، وثمّة من يمدّ يد العون، علّ القادم يكون أفضل.
اقرأ أيضاً: مدينة البندقية الإيطالية في دمشق.. هل ستخوض التجربة؟