فرصة التقارب الروسي الفرنسي- أنس جودة
ضوء خفيف في سواد المشهد السياسي..
سناك سوري – أنس جودة
يبدو التقارب الروسي الفرنسي كضوء خفيف في سواد المشهد السياسي الدولي والاستقطاب المستحكم بين القوى الاقليمية والدولية الذي يُنذر، اذا استمرت مفاعيله، بعودة قاسية لجدران الحرب الباردة والثنائية القطبية القاتلة وتفاقم الصراعات الاقليمية.
الصراع الرئيسي الذي يحكم العالم اليوم هو سباق المصالح بين الولايات المتحدة والصين على خطوط التجارة والموارد، ونتيجة لهذا الصراع تسعى كلتاهما في سباق متواصل لتثبيت واحتواء الدول الاقليمية ضمن مشاريعها أو منعها من الالتحاق بالمعسكر الآخر عبر الوعود بالاستثمارات أو الاتفاقيات العسكرية الثنائية وعقود توريد لسلاح، أو الضغط لمنع التعاقد والإتفاق مع الطرف الآخر. وليست روسيا وأوروبا ببعيدتين عن سياسة الضغط والاحتواء هذه، فكل منهما شريكٌ أساسيٌ في مشروع كل طرف فبدونهما يفقد كل طرفٍ الشريك الأساسي والأرضية الاقتصادية والعسكرية والسياسية اللازمة لإكمال مشروعه، كما يشكل احتوائهما معا ً لصالح فريق واحد في واقع الأمر هدفاً رئيسياً له.
اقرأ أيضاً: هل نحن محكومون بالاختيار من نفس السلة الفاسدة؟
بالطبع ليس هناك تطابق تام بين الرؤى ضمن كل معسكر، فالرؤية الأوراسية المتمثلة بالمشروع الروسي للاتحاد الأوراسي وبُعده الأوروبي الشرقي الذي تمثل أوكرانيا حجر الأساس في تحققه لاتذوب تماماً مع مبادرة الحزام والطريق الصينية وذلك رغم التعاون ضمن معاهدة شنغهاي، كما أن الإطار الأطلسي وحلف الناتو لم يعد يشكل البعد الوحيد للمصالح الأوروبية خصوصاً في ظل السياسات الأمريكية الجديدة التي تعلي من مصالحها القومية على حساب شركائها التقليدين، وهذا مايفسر العديد من التمايزات في المواقف السياسية وحتى الإيديولوجية الفكرية ناهيك عن المصالح الإقتصادية المختلفة.
فتح حديث الرئيس بوتين عن فشل الليبرالية كإيديولوجيا وحيدة تحكم العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الباب على نقاش وردود سياسية كان آخرها اعتراف الرئيس ماكرون بهزيمة الغرب وعدم بقاءه المتحكم الوحيد في قرارات العالم، ولكن العلامة الفارقة في حياكة التقارب الروسي-الفرنسي والتي ضربت على الوتر الأوراسي العميق كان القول بأن روسيا في نهاية الأمر هي أوروبية حاسماً بذلك جدلاً طويلاً حول هوية روسيا وتقاربها من أوروبا الذي مازالت تنظر له النخب الأوروبية بعين الحذر رغم مصلحتها الحقيقية في تحققه خصوصا في مواضيع الغاز والطاقة والتبادل التجاري، وتدعيم الحضور السياسي على مستوى القرار الدولي، والحد من موجة الحركات الشعبوية التي تنذر بإنهيار النموذج الأوروبي.
اقرأ أيضاً: بناء الاستقرار على رمال متحركة – الجزء الأول
ظهرت نتائج العمل الهادئ للطباخ الفرنسي والقيصر الطامح في اللقاء بين وزيري خارجية ودفاع البلدين الذي صدر عنه عدة توافقات أكثرها رمزية هو تبادل المعتقلين بين روسيا وأوكرانيا، تلاها توافقات وتصريحات تتعلق بالعمل المشترك في أفريقيا، أمن الملاحة في الخليج، وفي الحالة السورية التمسك بالقرار الدولي 2254 والتوافق على تسريع إطلاق عمل اللجنة الدستورية.
تعلم روسيا تماماً أن إكمال جهود دعمها لسوريا، التي ساهمت بشكل حاسم في هزيمة مشروع تدمير الدولة، تحتاج لمسار سياسي متوازن على المستويين المحلي والدولي، وإزاء الرفض الأمريكي للإنطلاق بمشروع حل سياسي موضوعي يحفظ الدولة ويعترف بالوقائع الميدانية أطلقت موسكو مسار أستانا القائم على ثلاثية التوافق الروسي الإيراني التركي. ولد هذا المسار مترافقاً بخلع ولادي ومعضلة عميقة هي وجود التركي المبتز كممثل احتكاري وحيد للطرف السوري الآخر، ولكن بدون وجود تمثيله لايعود هناك معنىً لكل مسار أستانا. وحتى مع افتراض استمرار التوافقات ضمن أعضاءه فهو لايحقق الحل السياسي المستدام الذي ينقصه حضور الغرب والتوافق معه.
من هنا تأتي الحاجة لمسار مختلط بدأت مظاهره في اللقاء الرباعي بين روسيا وتركيا وألمانيا وفرنسا ولكن كانت معضلة أوكرانيا والرفض الأمريكي للتوافق الألماني الروسي في مجال الغاز من أهم العراقيل. المبعوث الأممي أيضا ذهب بنفس الإتجاه مدفوعاً بالحاجة لفك الاستعصاء في جنيف وبناء على عدد من الأفكار التي قدمت له، فاقترح تشكيل مجموعة دولية جديدة تضم مسار أستانا والمجموعة المصغرة. ويأتي التقارب الروسي الفرنسي اليوم الذي يبدو أنه لايتعامل فقط مع ظواهر المشكلات الدولية بل يحاول البحث فيها بعمق، كبادرة فيها شيء من التفاؤل في خضم الصراع الدولي المستحكم.
لن تخرج روسيا من مشرقيتها وطبعا لن تعادي أوروبا والولايات المتحدة وترتدي عباءة القيصر، لكن تقاربات وتفاهمات مشتركة قد تفسح أمام العالم فرصة هامة لتشكيل نظام دولي جديد متوازن يُمكّن الشعوب من التقاط أنفاسها والعيش بكرامة وسيادة، فالصراعات الدولية والأصوات العالية ربما تخفي خلفها اتفاقات تتم لتقاسم المصالح يجري طبخها بهدوء والعمل عل فكفكة ملفاتها العالقة وتوزيع الأدوار فيها، فمصالح التجارة الدولية لايمكن أن تقبل بالنزاعات المسلحة والتوترات المناطقية التي تعرقل سيرها.
اقرأ أيضاً: بناء الاستقرار على رمال متحركة – الجزء الثاني