الرئيسيةرأي وتحليل

عن تولستوي وأثر الثقافة العربية في لا عنفيته _ ناجي سعيد

كيف قرأ صاحب “مملكة الرب بداخلك” حكايات “ألف ليلة وليلة”؟

سناك سوري _ ناجي سعيد

بنظرة عامة على الفاكهة، نجد بأن معظمها لا يُستفاد من قشورها، فيما “اللبّ” هو الفائدة والغذاء. الموز والبطيخ هو المثال الذي يستحضرني الآن، فلا يمكن لأحد أن يتخيّل حتّى بأن يأكل هذه القشور. وهذا المدخل الصادم، هو مقصود للشعور بهول حجم الفكر اللاعنفي، لو أراد أحدًا الإيمان بهذا الفكر وتطبيقه في حياته.

وتتناول هذه المادة الكونت “ليف نيكولايافيتش تولستوي” (9 سبتمبر 1828- 20 نوفمبر 1910) من عمالقة الروائيين الروس ومن أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر والبعض يعدّونه من أعظم الروائيين على الإطلاق.

كان “ليو تولستوي” روائيًا ومصلحًا اجتماعيًا وداعية سلام ومفكرًا أخلاقيًا وعضوًا مؤثرًا في أسرة “تولستوي” ومن أشهر أعماله روايتا “الحرب والسلام” و”آنا كارنينا” حيث تتربّع هاتان الروايتان على قمة الأدب الواقعي، فهي تعطي صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية.

لقد أضمر الكاتب الروسي احتراماً خاصاً للأدب العربي، والثقافة العربية، والأدب الشعبي العربي. فعرف الحكايات العربية منذ طفولته. عرف حكاية “علاء الدين والمصباح السحري”. وقرأ “ألف ليلة وليلة”، وعرف حكاية “علي بابا والأربعون حرامي”، وحكاية “قمر الزمان بين الملك شهرمان”، وذكر هاتين الحكايتين ضمن قائمة الحكايات، التي تركت في نفسه أثراً كبيراً، قبل أن يصبح عمره أربعة عشر عامًا. وهناك دليل آخر على احترام “ليف تولستوي” للتراث العربي. حيث يذكر الكاتب، أنّه كان يمضى الليالي في غرفة جدّته مُتمتّعًا برواياتها، كما كان يصغي إلى حكايات المُحدّث الأعمى “ليف ستيبانفتش”، الذي كان يعرف حكاياتٍ عربيةً كثيرةً، ومنها حكاية “قمر الزمان بن الملك شهرمان”.

اقرأ أيضاً: الإشاعات والتواصل اللاعنفي _ ناجي سعيد

كتب “ف.ف.لازورسكي” في مذكراته: “وحدثنا ليف نيكولايفتش حكايةً عربيةً، من “ألف ليلة وليلة”، حيث تحول الساحرة الأمير إلى فرسٍ، إنّه يحبّ كثيراً الحكايات العربية، ويقدرّها تقديرًا عالياً. ويقول: يجب معرفتها منذ الطفولة… ويرى تولستوي أنّها نافعة أكثر من مقالة عن الليبرالية التي كانت تنشرها المجلات الثقافية السياسية.

وعتب “ليف تولستوي” على” خ.د. التشيفسكيا”، لأنّها لم تضمّن قائمة الكتب المقترحة للقراءة الشعبية الحكايات العربية فكتب لها، “لماذا لم تقترحي الحكايات العربية؟ إنّ الشعب يرغب قراءتها! هذا تقصير من جانبك.

تسلّم تولستوي، في السنة الأخيرة من عمره، طبعةً فرنسيةً جديدةً “لألف ليلة وليلة”، وقرأها من جديدٍ بكلّ سرورٍ. وتعود علاقة تولستوي الأولى بالأدب الشعبي العربي إلى عام 1882، فقد نشر في ملحق مجلته التربوية “يا سنايا بوليانا”، بعض الحكايات العربية الشعبية، منها حكاية “علي بابا والأربعين حرامي”. ويظهر تأثر “تولستوي” بألف ليلة وليلة في روايته “لحن كريستر”، كما أنه تراسل مع الإمام “محمد عبده” ولكنهما تُوفّيا قبل استكمال تحاورهما.

كفيلسوف أخلاقي اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف. وتبلور ذلك في كتابه “مملكة الرب بداخلك” وهو العمل الذي أثر على غالبيّة اللا عنفييّن في القرن العشرين مثل “المهاتما غاندي” و”مارتن لوثر كينج” في نضالهما الذي اتسم بسياسة المقاومة السلمية المنابذة للعنف.

اقرأ أيضاً: التربية اللاعنفية – ناجي سعيد

وعوداً على بدء، فكما تكمن فائدة البطّيخ والموز في “اللّب”، فاللاعنف هو البذرة بداخل كلّ إنسان، حتى لو انشغلت حياته باهتماماتٍ أخرى، يبقى الجوهر هو المصدر الدائم الذي يغذّي الأفكار والنتاج الفنّي الأدبي، ولو خطر السؤال ببال أحد كيف يمكن أن يختار أحدهم طريق اللاعنف؟ هل يكفي أن يتبع قلبه؟ فليس كلّ من سلك درب الفنّ والأدب، اختار اللاعنف فلسفةً لحياته. لأن المجالين مُعرّضان للانحطاط واللاإنسانية. ومن الممكن إضافة تجربة تفتح آفاقًا جديدة في دماغ الانسان.

فكما يقول الأديب اللبناني “ميخائيل نعيمة”:«فكري ضيّق ما دام لا يتّسع لأي فكرٍ آخر». وهذا ما عاشه وطبّقه “تولستوي” في حياته: الانفتاح على ثقافات مختلفة، وما لفت نظره واستقى منه الكثير هو “الثقافة العربية”. فقد كان قارئًا نهمًا للقصص العربية التقليديّة: “علي بابا والأربعين حرامي، ألف ليلة وليلة..”.

ويمكنني أن أرجّح كفّة “تنوّع الثقافات” كمسار مساعد جدًّا على تبنّي اللاعنف. فببساطة وبحسب غالبيّة فلاسفة اللاعنف، وتحديدًا الفيلسوف الفرنسي “جان ماري مولر”: إنّ طبيعة الناس خيّرة، ولا تحبّ الأذى للآخر، وأساس اللاعنف، هو النيّة بعدم ارتكاب الأذى. ولو كانت طبيعة البشر خيّرة، فالسؤال: كيف نلحظ هذا الخير؟

إن الثقافة الشعبية الصادقة هي المصدر الأنقى الذي يمدّ البشر بهذه الثقافة، حيث يستمدّ الناس سلوكهم اللفظي وغير اللفظي من حكايا الناس الشعبية المكتوبة أو المروية والمتناقلة على الألسن. لقد كان يضيف تولستوي إلى هذا المصدر موهبته في كتابة القصص وقد وصل إلى العالميّة بفضل صدقه وشعبيّته وتناوله مواضيع إنسانية لرواياته، فمفهوم اللاعنف يكمن في طبيعة الناس الخيّرة.

اقرأ أيضاً: اللاعنف والصفات الواصمة – ناجي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى