عنف السلطة وغاندي – ناجي سعيد
هل يمكن مواجهة الظلم بظلمٍ آخر؟ نعم فالعنف يبدأ بظلم الذات. وبالتالي يستحيل الانتصار على الاحتلال باستخدام “ذوات” مُعنَّفة ومظلومة
سناك سوري-ناجي سعيد
يبدو موضوع العنف واقعًا حتميًّا لا يُمكن لأحد الفرار منه. وكأنه يُولد مع الإنسان، ليبدو جزءًا من تكوينه البيولوجي، وهذا غير دقيق تمامًا. فلو سلّمنا بأنّ اللاعنف هو نهجٌ وفلسفة حياة، فلا بدّ من عوامل تُساعد على نموّ هذا اللاعنف داخل الفرد، لينتشر في المجتمع، وتُستخدم أدواته لمواجهة ومقاومة الاستعمار والظلم. ومن هذه العوامل والتي ساعدت بشكل كبير نجاح ثورة “المهاتما غاندي” في مواجهة الاستعمار البريطاني، عوامل تتعلّق بثقافة روحيّة مُستمدّة من الخلفيّات الدينيّة، لشعبٍ متعدّد الطوائف، لكنّه يتمتّع بإيمان عميق. شعبٌ ينظر أولاً إلى جوهر الإنسان قبل الالتفات إلى مكافأة السماء.
جوهر الإنسان هو المرجع والمصدر الذي يستقي منه أي شخص القدرة لاستخدام الأدوات لمواجهة الظلم والاستعمار بروح اللاعنف. ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يعي ذاته، ويعرفها جيّدًا، أن ينطلق ليرشد الآخرين على الطريق نفسها، معرفة الذات.
وللتأكيد على ما أقول، تجربة المهاتما غاندي، هي المثال على ذلك، فقد نُشرت عدّة أخبار (صحيحة وغير صحيحة) عن وقوع غاندي بعض الأحيان في حفرة “الملذّات” الجسديّة وقد كان تبريره هو اختبار نفسه للوصول إلى الصفاء الروحي والجسدي. وهذه ليست مقدّمة بلا جدوى، فهي مرتبطة بالموضوع الذي أتناوله.
فهل يعقل التفرّغ والانشغال بمواجهة ظلم السلطات البريطانيّة ومقاومتها، قبل تفريغ النفايات الموجودة داخل الجسد وخارجه؟ من السهل على أي سلطة مُستعمِرة أن تلعب على أوتار النفوس الضعيفة لترسّخ استعمارها وتقوّي سلطتها لتوسّع انتشارها.
اقرأ أيضاً: الديمقراطية واللاعنف – ناجي سعيد
وعلى الرغم أن اللاعنف لا يرتكز على “فرد” لتمجيده بطلاً. إلاّ أن بناء ذات الفرد هنا، كانت مفتاحًا لشخصٍ واجه السلطة، مُبتكرًا أدوات مواجهتها، من داخلها. والسلطات البريطانيّة التي تعتقد بأنّ فعلها الغاشم هو عين الصواب. إلاّ أن الهنود الذين اعتمدوا على ثقافة روحانيّة مُستمدّة من ديانات وموروثات شعبيّة، شكّلت القوّة الرادعة للظلم والعدوان. فهل يمكن مواجهة الظلم بظلمٍ آخر؟ نعم فالعنف يبدأ بظلم الذات. وبالتالي يستحيل الانتصار على الاحتلال باستخدام “ذوات” مُعنَّفة ومظلومة.
كانت مسيرة الملح مثلاً تحرّك لاعنفي بامتياز، فهو يعتمد على الشعور بفخر الشعب الهندي بقدرته على إنتاج الملح من بحرهم ورفض الملح الإنكليزي. نستنتج هنا بأن من مرتكزات اللاعنف تقدير الذات واحترامها. فكيف لذاتٍ مؤمنة ومليئة بمفاهيم ومرتكزات اللاعنف كالأهيمسا التي تعني رفض التدمير والأذى. والساتياجراها، التي تعني التزاوج بين الحب والحقيقة. لا يمكن لأي انسان أن يحرّر بلده من ظلمٍ برمي ظلمٍ مماثل على بلدٍ أو انسان آخر.
ببساطة شديدة، وبشكل علمي ودقيق، وبعيدًا عن التنظير والفلسفة، لا يُمكن لفردٍ يتألّم أن يتصرّف بشكل لاعنفي. فدعوة المسيح: من ضربك على الأيمن أدر له الأيسر، لم تكن دعوة فردية لتحمّل الألم والسكوت عن الحقّ. لا بل دعوة للتفكير بأن المواجهة لا تتمّ بردّ فعل سريع على ألمٍ آني في لحظة حصوله. والعودة إلى الذات، تعني أن تقمع الجزء المُتألّم من “ذاتك”، وتضمّه إلى ذات كاملة مُفكِّرة وفاهمة، بمقدورها القيام بفعل موازٍ للفعل العنيف، للحصول على نتيجة إيجابيّة تحترم الإنسان.
اعتمد غاندي على مُقدّرات الهند، من ثقافة وموروثات دينيّة وشعبيّة لإثبات الذات الجماعيّة والتي لخّصها الإعلام “ظلمًا” بشخصيّة بطل حرّر الهند. الشعب الهندي واجه السلطة البريطانيّة وطردها من أرضه، ليقول لها : ما يُمكنكم أخذه بصوت المدفع، سيزول بالطبع، بصوت الفكر والثقافة وحب الذات حيث رفض الأذى وحبّ الحقيقة.
اقرأ أيضاً: التعاطف في اللاعنف – ناجي سعيد