سوريا التاريخية… وباء انتشر في البلاد عام 1743 وهذا ماحصل
غياب الشفافية ساهم في انتشار الإصابات… والسوريون طبقوا حجراً صحياً
سناك سوري-حسان يونس
ربما يكون من المفارقات أن تنتشر الأوبئة في منطقتنا وفق خطوط السياسة، بحيث أن الأقاليم المجاورة التي غالبا ما تصدّر إلينا المخاطر السياسية هي ذاتها كانت يوماً ما سبباً في انتشار أوبئة صحية أودت بحياة الكثير من الأرواح.
على سبيل المثال يورد كتاب (تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر) وهو من تأليف، الطبيبان البريطانيين ألكسندر راسل (1715-1768م) وباتريك راسل (1727-1805م)، طبيبا الجالية التجارية البريطانية في مدينة حلب، يورد الكتاب أن أهالي حلب كانوا يعتقدون أن الطاعون “ينتقل إليهم من أماكن موبوءة أخرى مثل كلس وعنتاب وأورفة” التركية المحاذية للحدود مع مدينة حلب، ويؤكد المؤلفان صحة اعتقاد الحلبيين في أنهم لا يصابون بالطاعون إلا إذا جاءهم من جهة الشمال، مشيرين إلى طواعين كثيرة ضربت المنطقة في ثلاثينات وأربعينات القرن الثامن عشر، خاصة عندما انتشر أحد الطواعين في حلب ما بين عامي 1742 و1743م، وتفشّى بقوة في أيار 1743، إلا أن العثمانيين أنكروا حقيقة تفشي الطاعون، وتعمدوا إخفاء عدد الضحايا وأمكنة تعرضها للعدوى.
بحسب الكتاب سعى الطبيبان إلى معرفة عدد المصابين والموتى وأماكنهم كجزء من خطط العلاج والوقاية التي يقومان بها، إلا أن جميع الإحصاءات التي كانت بين أيديهم، تبين أنها غير دقيقة، بسبب إخفاء حقيقة الواقع، حيث يوردان أن “الإنكشارية” لم تقدم إلا نصف الحقيقة، “يتفق الجميع بأنهم لم يجلبوا تقارير عن نصف عدد الوفيات”.
كما يوردان أنهما سمعا كلاماً صريحاً من الانكشارية، بعدم مقدرتها على الإقرار بحقيقة الواقع، فيذكران: «بالفعل، صرّحوا بأنهم لا يجرؤون على جلب تقارير حقيقية لنا». ما يعني أن الانكشارية كانت تلقت أوامر عليا، بعدم ذكر حقيقة أعداد المصابين والوفيات.
وكنتيجة لمحاولة تخبئة الأمر، تفشّى الطاعون بقوة أكبر، وازداد عدد الموتى والجنائز بشكل كبير بين السوريين وغير السوريين في مدينة حلب، ومن جميع الأديان، كما يبين الكتاب.
اقرأ أيضاً: هكذا قدم الأميركيون السوريين أضاحي لـ”مولوخ”-حسان يونس
ومن جملة الإرشادات، التي يوردها الكتاب للوقاية من الطاعون، الكثير مما يستخدم اليوم للوقاية من الكورونا، كالاعتكاف في البيوت، ثم إقفال البيوت والمقار بشكل تام وعدم الخروج منها لأي سبب، بعد تأمينها بالمواد الغذائية، مع توظيف عامل خاص يتولى من الخارج، إيصال الطلبات إلى البيوت المقفلة، ثم يتم غسل أي شيء يتم إدخاله إلى البيت، بالخلّ، حتى الرسائل والأوراق ترش بالخل ثم تدخّن بالكبريت، كما يوصيان بالتنفس “من خلال طيات مزدوجة من منديل مندّى بخلّ خالص”، إذا ما كانت هناك حاجة ماسة لزيارة مصاب أو المرور في مكان فيه مصابون أو جثث مصابين ماتوا بالطاعون. (الخل لا ينفع مع كورونا).
بعد قرن من إصابة حلب بالطاعون كعدوى قادمة من تركيا العثمانية، انتشر الطاعون كذلك الأمر في بغداد قادما من الجوار الإيراني.
يشير الباحث العراقي “علي حمزة السرحان” في دراسة بعنوان (الأمراض والأوبئة التي اجتاحت العراق في العهد العثماني) إلى أن الوباء غالباً ما يضرب في مدينتي كربلاء والنجف، نتيجة تزاحم القاصدين والحجاج، والزائرين لها من خارج العراق، كما يروي الباحث العراقي “علي الوردي” في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) عن حكاية الطاعون القادم من الشرق والشمال، وتحديداً مدينة تبريز (عاصمة الدولة الصفوية).
ففي تموز 1830 كانت ولاية “بغداد” على علم بتفشّي الطاعون في “إيران”، وبعد شهرين وردت الأخبار عن وصوله إلى كركوك، فطلب داوود باشا -والي بغداد- من طبيب القنصلية البريطانية إعداد منهج للحجر الصحي بغية منع الوباء من التقدم، وقد أعد الطبيب المنهج، «لكن المتزمتين من رجال الدين في بغداد أفتوا بأن الحجر الصحي مخالف للشريعة الإسلامية فالتزم داود باشا بهذه الفتوى ممتنعا عن اتخاذ أي عمل لصد سير الوباء. ولهذا كانت القوافل الواردة من إيران تدخل إلى بغداد بكل حرية».
اقرأ أيضاً: الطقوس الدينية والطبيعة السورية القائمة على التنوع – حسان يونس
وفيما اتبع الأوروبيين والمسيحيون المرتبطون بهم إجراءات الحجر الصحي، استسلم سائر السكان للوباء الذي انتشر معزّزا بتخلّف رجال الدين، وبلامبالاة وعبث الاستبداد العثماني، فأخذ الطاعون يحصدهم، وكان كثير من السكان يحاولون الفرار من المدينة، غير أن السفن النهرية لم تكن تكفيهم، وخلت الشوارع من المارة، وتكدست فيها جثث الموتى، وعجز الأحياء عن دفن موتاهم.
ومن اللافت أن مصر عرفت آنذاك (وكان يحكمها محمد علي باشا)، نظام “الكارنتينا” أو الحجر الصحي الذي كان يفرض وضع اللاجئين القادمين من بغداد في أبنية خاصة على الحدود، تحت إشراف أطباء.
وقد انتقل هذا النظام إلى العثمانيين من مصر فظهرت “الكارنتينة” في اسطنبول للمرة الأولى في العام 1838م، والغريب أن العثمانيين لم يطبقوا هذا النظام إلا في اسطنبول، أما بقية الأقاليم كسورية والعراق فتُرِكت لتواجه مصيرها.
اقرأ أيضاً: سوريا وتاريخ من الغزو باسم الله – حسان يونس