سقوط ثقافة التبجيل مع النظام البائد .. هل تُنهي البلاد حقبة “دولة الرئيس”؟
كيف حوّلت مقابلات بشار الأسد الصحفيين إلى صانعي ألعاب لتسديدات سيادتو؟

حين كتب “ممدوح حمادة” حلقة “منع التملّق” في مسلسل “ضيعة ضايعة” كانت سخريتها نابعة من استحالة عيش أهالي “أم الطنافس” بدون تملّق بعد أن اعتادوا عليه لأجيال طويلة.
سناك سوري _ دمشق
ولم تكن “أم الطنافس” تلك سوى “سوريا” مصغّرة كان يحكمها نظام قائم على “تمسيح الجوخ” وغير الجوخ أيضاً، كوسيلة للارتقاء الوظيفي وضمان السلامة واتقاء شرّ السادة المسؤولين والأمنيين والمخبرين وغيرهم.
كانت ثقافة التبجيل وتمسيح الجوخ والإعلاء من شأن أصحاب المناصب حتى لو كان منصب مدير كشك حراسة مستودع لتخزين مطاطات الشعر. على أن ترتفع وتيرة التبجيل بالتناسب مع ارتفاع شأن المنصب، فتعلو عبارات “سيادتكم” و”معاليكم” و”حضرتكم” حتى يكاد صاحب المسؤولية ينفجر انتفاخاً وبهاءً.
مقابلات بشار الأسد
ربما تمثّل مقابلات بشار الأسد مع الإعلام المحلي نموذجاً صارخاً على تحوّل الصحفي/ة من دور موجّه الأسئلة إلى “صانع ألعاب” يمهّد الطريق أمام الرئيس ليروي إنجازاته ويتحدث عن عظمته وفرادته.
حيث كانت المقابلات الصحفية للرئيس المخلوع مليئة بأسئلة تبدأ بمقدمات طويلة تشيد وتمدح بحكمة القائد المعظّم، بل وتزيد من عندها زوايا جديدة لمدح قراراته قد لا تكون خطرت في باله أيضاً، ثم تقدّم له السؤال مصحوباً بالجواب ليرتاح “سيادته”.
فمثلاً إذا أراد المحاور سؤال الرئيس عن الوضع الاقتصادي كان عليه أن يبدأ سؤاله بالقول، نعلم أن البلاد تمرّ بمؤامرة كونية وتحارب 80 دولة وتحاصرها العقوبات أحادية الجانب وتصمد في وجه القوى الاستعمارية والعصابات الإرهابية المسلحة ولكن ماذا عن الاقتصاد؟ وكأن المحاور يشعر بالخجل لأنه تجرأ وسأل الرئيس لا كأنّ هذه مهمته أصلاً.
لقاءات “الأسد” التي كانت مليئة بـ”سيادة الرئيس” قبل كل نفس، و”سيادتكم” وكل ألقاب السيادة والفخامة لم تكن سوى ساعات مملة من اللا شيء ولم تقدّم للسوريين معلومة واحدة، ولم تنفع مدرسة التبجيل في تسجيل حوار صحفي هام لمرة واحدة خلال سنوات.
في المقابل، كان “سيادته الهارب” يرتبك أمام أسئلة الصحافة الأجنبية -عدا الروسية والإيرانية طبعاً – فيفيض منه الكذب والبلاهة، فمرّة يرتبك أمام سؤال عن “إبراهيم قاشوش” ومرة ينكر وجود البراميل المتفجرة، ثمّ يعوّض ارتباكه وأخطاءه بلقاءٍ مع وسيلة إعلامية حكومية يستعرض عبرها ذكاءه وإنجازاته وأوهامه وسردياته.
صور “سيادته” تحاصر السوريين
وكأن السوريين لم يكفيهم صور “سيادته” التي كان ينشرها في كل مكان، حتى شبّه البعض واجهة مطار دمشق بأنها صفحته على “إنستغرام” لكثرة صوره فيها، حتى كان البعض يبادرون لنشرها على زجاج سياراتهم ليتحفون الشوارع بصوره وأقواله مع أفراد العائلة “المبجّلة”.
بينما كانت تسمية “الأسد” تسيطر على البلاد من عبارة “سوريا الأسد” إلى مكتبة “الأسد” وقراه وضواحيه وشوارعه وجسوره، حتى أن عبارة مثل “دولة الرئيس” تتحوّل إلى حقيقة حرفية فتصبح فعلاً دولته التي يفعل بها ما يشاء ويسمّيها على هواه.
سقوط ثقافة التبجيل
لا يمكن أن يشكّل أي حدث آخر أكبر من سقوط النظام كفرصة لإسقاط ثقافة التبجيل، وإنهاء حقبة التملّق وتقديس الأفراد والتعامل مع صاحب المسؤولية على أنه مكلّف بمهمة تقديم الخدمات العامة للمواطنين وليس ملكاً متوّجاً ورث موقعه عن أبيه وعلى الناس إحاطته بقصائد المديح وعبارات التبجيل واستغلال أي مساحة لإظهار الولاء والإعجاب بحكمته وفرادته عن البشر. بدءاً من اللقاءات الإعلامية مع المسؤول إلى التعامل الوظيفي المباشر مروراً بالشارع وبكل مناسبة أياً كان منصبه رئيساً للبلاد أو مديراً لورشة صغيرة.