خبي كيسك الأبيض والأسود ليوم التسوق في “أوروبا”
في أوروبا عطلوا بيوم الرياضة، عنا بسوريا منستثمر حصة الرياضة لناخد فيها فيزيا أو كيميا أو عربي (فاشلين بالاستثمار هني)!
سناك سوري – سناء علي
إنه أول صباح في أوروبا.. أستيقظ صباحاً بالرغم من تعب الرحلة الكبير بالأمس، والنوم في ساعة متأخرة، ولكنه الهواء العليل.. هكذا قيل لي.. يجبرك الهواء النظيف الذي تتمتع به مدينتي الجديدة “ميشكوليتس” في “هنغاريا” على الاستيقاظ باكراً بنشاط وحيوية، وليس المنبه الذي كنت أقوم بإطفاء غفوته أكثر من 10 مرات قبل أن أتمكن من النهوض، للحاق بباص المبيت الذي كان يقلّني إلى عملي، والذي كان موضع حسد الكثيرين لي حيث لا “شنططة بالسرافيس”.
ألقي نظرة على الأشجار المنتصبة أمام المبنى.. إنه الخريف هنا، (مو ناقص غير فنجان نسكافيه اكسبريسو أو قهوة أمريكانو … وموسيقا أجنبية تنم عن ذوق رفيع وأصبح مثل تلك اللواتي كنت أراهن في الأفلام أو أقرأ عنهن في الروايات، الله كريم)، لا يطول الأمر كثيراً في التأملات، حيث لا قهوة لدينا، ولا حتى أدوات المطبخ اللازمة، فمعظم ما حملته من “سوريا” كان عبارة عن الثياب، إذ إن الوزن المحدد للحقائب من قبل شركة الطيران، اقتصر على 28 كيلو فقط.
القوانين ولعنة الحرب
اللعنة على هذه الشركة التركية، أشعر بحقد كبير عليها، “تركيا” كان لها النصيب الأكبر من المساهمة بخراب أجزاء من بلدي.. لا أستطيع منع نفسي من التفكير في الأمر، ولكن المفارقة أنها كانت موضع نصيحة جميع من سبقونا في خوض غمار التجربة الأوربية هذه، فهي الأرخص ثمناً، والترانزيت في المطارات التركية مضمون، لأن معظم البلدان الأوروبية الأخرى، تشدّد على دخول السوريين إلى مطاراتها، وربما يمنعونهم من المغادرة إلى البلد الوجهة، (اللعنة على كل شيء، تركيا تقوم بتهجير الملايين من السوريين من أراضيهم، كما فعلت في عفرين، وتفعل اليوم في شمال شرق الفرات، ولكنها تستقبل المسافرين على أرضها، وبسبب الحرب التي لا تزال “تركيا” أبرز المساهمين بإشعالها، أصبحنا مثار الشبهات أينما ذهبنا!!!).
لماذا أعاود الحديث عن بدايات الرحلة في كل مرة، لا تزال تفاصيل ذلك اليوم عالقة في رأسي ولا أستطيع نزعها بسهولة، ما الذي أتى بي من حديث القهوة إلى حديث عن تركيا، لست أدري ربما على قولة “حسني البورظان”: «إذا أردت أن تعرف ماذا سيحصل في “ايطاليا” فعلينا أن نعرف ماذا يحصل في “البرازيل”».
خبز.. لبنة.. وزيت زيتون..
لا فنجان قهوة صباحي إذاً.. حسناً لا بأس.. ليس الأمر بهذه الأهمية، فهناك وجبة الإفطار والاختبار الأول لمنتجات هذا البلد، ما هذا.. إنها لبنة.. لا بأس بها.. ولكن أين منها كرات اللبنة “المدعبلة” المسقاة بزيت الزيتون، أعرف أنها تكاد تنقرض في “سوريا” أيضاً، وأن معظم المحلات تتلاعب باللبنة، ولكن الغربة تفعل في الذاكرة فعلها، فتحوّلها إلى ذاكرة انتقائية لا تستحضر سوى الصور الجميلة، وتقوم بمسح كل ما يشوهها.. إنه الحنين الذي يمزق نياط القلب، دون رحمة، ولا أملك سوى أن أفرغه على ملفات “الوورد” في حاسوبي، حيث يمكنني التحكم بحجم الخط ولونه وغير ذلك مما توفره شركة “مايكروسوفت”، دون أن أتمكن من التحكم بنوبات الحنين المتلاحقة التي تأكلني لحماً وترميني عظماً.
«طعمها لذيذ» أحدّث نفسي على سيبل التفاؤل، وأنا أدهن قطعة أخرى من خبز التوست، الخبز سيكون معاناة دائمة، تباً سيتغير “ميكانيزم” الطعام كله، مع هذا الخبز.. لا بأس.. أحاول أن أساعد عقلي على تجاوز مشكلاته الكثيرة.
أحمد الله على أنني لست من “فانزات” المكدوس، فقد سمعت الكثير من آهات التحسر على رائحته من قبل عشاقه، يكفيني التحسر على الزيتون والزيت، خاصة أنني سافرت قبيل جني محصول الزيتون.
ننهي وجبة الإفطار غير الدسم، ونستعد للنزول إلى الأسواق، فاليوم عطلة في الجامعة، إنه “sport day“، واوو ما هذه المناسبة التي تستحق أن يتوقف التدريس والدوام الإداري في الجامعة، يوم الرياضة (أضحك في سري، لا أملك إلا أن أقارن بين مناسبات الأعطال لدينا، وأتذكر كيف كان مدرسو الرياضيات والفيزياء ووو.. يستولون على حصة الرياضة “السخيفة” لتلقيننا المزيد من المعلومات).
يصحبنا أحد الزملاء القدامى ممن يعرفون المدينة، إلى أسواقها، بحسب “الويكيبيديا” فإنها رابع مدينة في المجر من حيث المساحة، بما يقارب 240 كم مربع، وعدد سكان يصل إلى 170 ألف نسمة (يخرب بيتهم من حالهم كل هالمساحة موزعة على هال 170 ألف.. الشام لحالها فيها 5 مليون ومساحتها يا دوب 110 كم مربع).
اقرأ أيضاً: تجارة رابحة في باصات النقل.. “بسكوتة” بدل الخمسين ليرة (ليش ضل بسكوتة بخمسين)!
الباص الأخضر.. ذكريات لا تنسى
نركب الباص بطبيعة الحال “التيكيت” الواحدة ب 400 “فورنت” أي ما يعادل 800 ليرة سورية (لسا تحكوا عال 50 ليرة والبسكويت بدل فكة الـ 100 ليرة)، بينما تصل غرامة من يركب من دون بطاقة إلى 8000 “فورنت”، تتم مضاعفتها إذا لم يدفع خلال أيام قليلة من موعد تسجيل المخالفة، في حال صعد المفتش، هكذا تتم تربية الناس على اتباع القوانين، لا أحد يصعد من دون بطاقة، مع أن الباص يملك عدة أبواب.
نصعد ونجلس بسرعة، فالباص لا يتأخر عن مواعيده المعروضة على الشاشة في كل موقف، واو تستطيع أن تحصل على مكان بسهولة هنا، لا كما كان يحدث في باص “الرمل- مشفى”، أو “الزراعة” أو “الشيخضاهر”، ولا انتظار عشوائي لا تعرف له نهاية، والسائق لا يكرر لازمة تنبيه الركاب لضرورة الرجوع للوراء، دون أن أغفل قلة عدد سكان المدينة بطبيعة الحال.
نعرف كافة مواعيد الباصات عبر تطبيق صغير على الموبايل يقوم بتحديث معلوماته باستمرار، أفكر ماذا لو لدينا هذا التطبيق هنا، -و”هنا” ستبقى دائماً تشير إلى البلاد التي تركتها منذ عدة أيام فقط، حتى لو كنت هناك على بعد آلاف الكيلومترات عنها، إذ لطالما كانت هناك مخالفة لقواعد اللغة لضرورات شعرية على سبيل المثال، أما في حالتي فتجوز مخالفة دلالة ظرف المكان “هنا” لضرورات الحنين- كيف كان سيعمل، ما هي الرسائل التي سيتبادلها أقسام النظام البرمجي فيما بينهم من أجل تحديث المواعيد.
(الباص تأخر بسبب سيارة كوعت عليه، الباص توقف لبينما يرجعوا الركاب لورا، الباص ذهب لتعبئة المازوت، الباص أخدوه النادي الفلاني كرمال ياخد لعيبته فيه، عدد الباصات غير مستقر. بسبب رحلات المدارس، السائق توقف ليجيب غرض من شي طريق، الباص تأخر لأن سيارة مفيمة تجاوزته)، واوو سوف تنفجر قاعدة بيانات البرنامج من كثرة طلبات التعديل عليها، فلتذهب التكنولوجيا إلى الجحيم.
اقرأ أيضاً: هل يأكل المسؤول من خبزنا ويلبس ذات ثيابنا.. لا تقلولي بيخالف السير متلنا كمان!
السيارات تنتظر.. المارة ينتظرون.. الشارع فارغ. ولا نستطيع العبور..
إنها المرة الثالثة التي ينبّهنا فيها زميلنا “الأقدم منا في أوروبا” قبل أن نقطع الشارع، فنحن معتادون على السير بين السيارات، أكثر من ذلك، لا سيارات في الشارع ولا شرطة مرور، (لم أشاهد أي شرطي في أي طريق، ما في مخالفات هون، من وين بدها تجي المخالفات إذا الشارع بكون فاضي ومع هيك الكل ناطر على إشارة).
وكلما هممت بالعبور بشكل لا إرادي، أتلقى منه تحذيراً شديد اللهجة: «الإشارة حمراء، ومو من هون العبور.. لازم نقطع من عند المعبر»، نضطر للسير إلى بداية الطريق كي نعبر على خط المشاة، «تباً للقوانين، ليست أمراً جيداً بشكل دائم، إنهم يضيعون كثيراً من الوقت، مو عأساس الوقت أهم شيء بأوروبا» أتمتم في نفسي.
«عجلوا اركضوا» يحثنا رفيقنا، «مشان شو بدنا نركض» أسأله باستغراب.. «الإشارة فتحت قبل ما تسكر».. (يا عيني.. الناس بتركض هون لتلحق الإشارة، حلو، المهم بيركضوا متلنا، لما منركض ورا السرفيس ولا فرق بين بلدان العالم الأول والثالث).
الأكياس وبعد نظر ست البيت السورية
“خبي كيسك سواء كان أبيض أو أسود للتسوق في أوروبا” يبدو هذا القول مناسباً للتسوق من المتاجر الهنغارية، خاصة عندما تضطر لدفع 500 فورنت (1000 ليرة سورية، وبرواية أخرى أجرة يوم لموظف من الفئة الأولى)، ثمن كيس من أجل أن تضع أغراضك فيه، حيث لا يعطيك البائع أي كيس مجاني (بالحميدية موناقص غير يشيلك صاحب المحل ع كفوف الراحة بس تشتري من عندو، وبضيفك قهوة يمكن، بس المهم تشتري).
السبب في عدم تداول الأكياس بالمجان هو التقليل من استخدامها بسبب ما تسببه من تلوث للبيئة.. لذلك ترتفع أسعارها كما أسعار البلاستيك أيضاً.. إنها أساليب تشجيع المواطن على استخدام وسائل بديلة غير مضرة مثل حقائب الظهر، أو أكياس القماش (مو حملات تنبيه، أو الاعتماد على الأخلاق المجتمعية، بالدفع كل الناس بتصير بتفهم).
أغبط نفسي أنني أحضرت تشكيلة واسعة من الأكياس مختلفة القياسات والألوان من منزلي، بعدما تلقينا التنبيه اللازم ممن وقعوا في الفخ، وتستطيع أن تعرف أهمية سياسة إعادة التدوير التي تتبعها المرأة السورية في تكديس الأكياس فوق البراد وحول جرة الغاز، لا أستطيع تخيل نفسي أدفع 1000 ليرة مقابل كيس، فيما الأكياس على (مد عينك والنظر) في “سوريا”، حتى أن وصفاً لا يزال عالقاً في رأسي منذ سنوات كانت قد ذكرته إحدى صديقاتي عن مدينتها الصغيرة التي وصفتها بمدينة الأكياس الطائرة، في إشارة إلى الأكياس المنثورة في الشوارع التي ترميها رياح الشتاء في كل مكان.
اقرأ أيضاً: “رأس العين” بعيدة عن العين وليست بعيدة عن القلب
لماذا نلتزم بالقوانين في بلاد أخرى؟
يدلنا صديقنا على المتاجر الأرخص ثمناً، نبتاع ما عجزنا عن حمله من “سوريا” و ننتظر الدور لكي نحاسب.. لا أحد يتجاوز الدور، الجميع يصطف في مكانه بشكل تلقائي، حتى نحن “ياللغرابة”، لماذا لا نطبق القانون في بلداننا، بينما نبالغ في الحرص عليه في بلدان الآخرين، أتراه الخوف، أم الشعور بالدونية والنقص من نظرة الغربي لأبناء الشرق، والمحاولة الحثيثة تالياً لتغيير هذه النظرة، أم أن البلد يفرض علينا الالتزام بقوانينه، بينما لا قانون يُطبَّق في بلداننا، بل ترافقنا سياسة “دبر راسك” منذ الطفولة.
ألهي نفسي عن هذه التساؤلات أثناء الانتظار، بتأمل الخيارات المتعددة من كل صنف، ما زاد في حيرتي، أنا التي لم تكن الخيارات المتعددة يوماً ما، جزءاً من حياتي.
تنتهي رحلة التسوق الأولى والتعرف على المدينة التي ستكون عنواني الجديد في المعاملات الورقية، بقليل من الخسائر المادية، والكثير من التعثر بالخطوات.. فأنا لست ممن يألفون الأماكن بسرعة، ولا أحفظ الطرقات جيداً، بينما كانت قدماي تسيران بسرعة وثبات “هنا” في “سوريا”، بالرغم من كثرة المطبات.
يتبع..