حلا صالح: قصة مهندسة زراعية صنعت من الورود مشروع حياة
شابة تحوّل الهواية إلى مصدر رزق، وتثبت أن النساء لسن نصف المجتمع فقط، بل قلبه النابض في الأزمات

“أنا بنت عادية، عندي مشروع صغير بتنسيق الورود، وبتمنى يكبر ويعيش”، تقول “حلا صالح” بصوت خجول يشبه خطواتها الأولى في عالم المشاريع، مشروعها البسيط، الذي بدأ كهواية ومصدر دخل إضافي، تحول منذ آذار الماضي إلى طوق نجاة لأربع عائلات فقدت مصدر دخلها.
سناك سوري-داليا عبد الكريم
“حلا” مهندسة زراعية شابة، تعيش في قرية “رأس العين” حيث يمتلك والدها بيت بلاستيكي لزراعة ورود الجوري، في سنتها الدراسية الثالثة، خطر في بالها أن تستفيد مادياً وتبدأ بتنسيق باقات الورود للمناسبات مثل التخرج، فالوضع المادي لم يكن جيداً والعائلة تحتاج أن تزيد من دخلها.
لكنّ “حلا” اصطدمت بوالدها الذي رفض الفكرة، فكيف لها أن توصل الباقات بالسرافيس من قريتها إلى الجامعة التي تبعد عنها على الأقل 25 كم، ثمّ أن تنسيق الباقات يحتاج لخبرة، مع ذلك لم تستسلم الشابة: “قررتُ إقناعه بكل الطرق الممكنة”.

أخبرت الشابة والدها أنها ستتعلم تنسيق الباقات عبر الإنترنت، وستختبر إمكانية التوصيل بوسائل النقل العامة، وبأنها تحتاج أن تجرب “ومو خسرانين شي”، بعد طول مدة اقتنع والدها، فأحضرت الشابة ورق التغليف وبدأت تتدرب، وبالفعل نجحت بتنسيق باقتها الأولى: “كانت ممتازة مقارنة بكونها أول مرة”.
الوالد الذي رفض في البداية، صمت الأب لوهلة وهو ينظر إلى الباقة الأولى، لم يقل شيئاً، فقط أمسكها، أدارها ببطء بين يديه، ثم تمتم: “منيحة.. والله منيحة”، في تلك اللحظة، عرفت حلا أن الحرب الأولى انتهت.
لم يكتفِ الأب بالتمتمة، بل ذهب يبحث عن متاجر تبيع ورق التغليف بالجملة لتخف التكاليف، وبدأ يسأل أصدقاءه عن أنواع الورود التي يزرعونها في أراضيهم، لاختيار أنواع عديدة وعدم اقتصار الباقة على الورد الجوري فقط.
في تلك الأثناء، كانت الشابة العشرينية قد بدأت بإنشاء صفحة عبر الفيسبوك للترويج لعملها، مع استمرار التدريب والتعلّم على تنسيق الباقات،لم يكن الأمر سهلاً في البداية ولم تنهمر الطلبات، وأساساً “حلا” لم تكن تنتظر مثل هذا النجاح من اللحظة الأولى.
إدخال الفراشات والأطواق على التنسيقيات، كان نقطة التحوّل الأولى في عمل الشابة، فبدأت العروض تأتي، وحين لاحظت الأمر قررت التوسع وبدأت بنشر الإعلانات عبر الصفحات المحلية لقريتها والقرى المجاورة لتزيد من عدد الزبائن، واليوم بات عدد متابعي صفحتها 16 ألف متابع، ترى فيهم زبائن محتملين بكل مناسبة يريدون خلالها شراء الورود والباقات.
تحديات
كأي صاحبة مشروع أخرى، لم تخلُ تجربة “حلا” من بعض التحديات، مثل التفاعل القليل في الصفحة المخصصة لتسويق منتجاتها، إلا أنها انتبهت بأن ما يجذب المتابعين هو القصة التي ترويها عن الباقة، فكل الصور التي تحوي قصصاً كانت تحقق تفاعل أعلى من باقي الصور، ولكونها قارئة روايات وتحب الكتابة لجأت للاستفادة من هذه الموهبة وحسّنت التفاعل بالصفحة.
التحدي الآخر لم تستطع التغلب عليه بعد، فالتصوير يشكل مشكلة كبيرة خصوصاً أنها مضطرة لاستعارة موبايل شقيقها أو كاميرا قريبتها، لأن دقة كاميرا جوالها غير جيدة، ثم إن زوايا التصوير تشعرها بالحيرة، وهي الآن تحاول أن تتعلم تجاوز هذه المشاكل.

لم يكن التعامل مع الزبائن بذات القدر من السلاسة دائماً، مرات عديدة جهّزت الشابة الباقة بعناية اختارت الورود، رتّبتها، غلّفتها، وربما أضافت فراشة صغيرة كما تحب، ثم جاءها الاعتذار: “آسفين، تراجعنا”.
في البداية كانت تشعر بخسارة مزدوجة وقت ضائع، وخيبة تشبه إهمال وردة قُطفت قبل أوانها، لكن التجربة علّمتها اليوم، لا تبدأ العمل إلا بعد رعبون يُثبت الجدية، والباقي عند التوصيل، قاعدة بسيطة، لكنها أنقذتها باقاتها من الذبول بلا مناسبة، ووقتها من التبديد بلا ثمن.
ترى “حلا” لمعة الفخر في عيون أهلها، وهذا بحد ذاته أحد أكبر نجاحاتها، فهي ترفض نظرة المجتمع للنساء، وتقول إن النساء لسن نصف المجتمع فحسب، إنما نحن عضو فعال جداً فيه.
“حلا” بدأت الاعتماد على نفسها والاستقلال مادياً عن أهلها، منذ سنوات دراستها حين كانت تكتب المحاضرات للمكتبات، كي تحصل على مصروفها الشخصي والدراسي، شأنها شأن شابات وشباب كثر حذو حذوها بالاعتماد على أنفسهم ومساعدة عائلاتهم.
مشروع حلا لا يبدو استثناء في واقع النساء السوريات بعد سنوات الحرب والخسارة، فبحسب بيان أصدرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان بمناسبة يوم المرأة العالمي في آذار الماضي، وصل عدد النساء المعيلات في البلاد لأكثر من 1.2 مليون امرأة.
في المستقبل البعيد تفكر المهندسة الشابة بافتتاح محل خاص بمشروعها، لكن بالمستقبل القريب تجده حلماً صعب المنال، فالقدرة الشرائية تمنع كُثر من شراء الورود وصرف المال عليها.
قد لا يكون محل الورود قريب المنال، لكن حلا تعرف أن كل وردة تنسقها تقربها خطوة، ليس فقط من حلمها، بل من بناء حياة مقاومة رغم كل الخسارات.