حكاية الرجال الذين قتلوا نسائهم وأطفالهم في المدينة الفينيقية- حسان يونس
توجهات سياسية معاصرة تستند إلى إرث الماضي
سناك سوري-حسان يونس
نتيجة النزاعات التي كانت تنشب دائما بين أرواد وصيدا وصور على النفوذ التجاري، والسيطرة على المستعمرات الفينيقية، اختار الفينيقيون طرابلس كأرض محايدة متوسطة لإنشاء مجلس شورى للمدن الثلاث، بحيث تتمثل كل مدينة بمائة عضو، ومن هنا أخذت طرابلس اسمها “تريبوليس” أي المدينة المثلثة وكانت تتألف من ثلاث مدن هي الاروادية، والصيداوية، والصورية.
بعد سقوط “بابل” بيد “قورش الفارسي” 539 ق.م انفتحت أبواب الهلال الخصيب أمام السيطرة الفارسية، وخضعت المدن الفينيقية للملك الفارسي قورش الذي مد نفوذه إلى مصر، واستولى عليها وأراد التوسع غربا إلى قرطاجة، إلا أن المدن الفينيقية لم تذعن لذلك، لكون قرطاجة من الأخوات الفينيقيات.
في العام 351 ق.م اجتمعت المدن الثلاث في مؤتمر عام في طرابلس وأعلنت الثورة على الفرس، ورداً على ذلك حاصر “إرتحششتا الثالث” على رأس جيش كبير “صيدا” ٣٥١ ق.م، وعندما تبين لسكانها استحالة المقاومة فضلوا الموت وجمعوا سفنهم وأحرقوها كما أقدم الرجال على قتل نسائهم وأطفالهم، ثم أغلقوا أبواب منازلهم وأحرقوها على أنفسهم، ويروي التاريخ أن حوالي ٤٠ ألف شخص كانوا داخل المدينة، ونتيجة هذه المذبحة الرهيبة تراجعت بقية المدن الفينيقية عن التمرد وعادت إلى بيت الطاعة الفارسي ليبدأ خريف تساقطت فيه الأوراق الفينيقية تباعا من على شجرة التاريخ.
بعد انتصاره في معركة إيسوس 331 ق.م تابع الملك المقدوني “الاسكندر” سيره جنوبا على امتداد الساحل السوري فخضعت له سائر المدن الفينيقية، بما فيها صيدا التي استقبلته بحفاوة كمحرّر من النّير الفارسي. عندما وصل الإسكندر إلى مشارف صور، أرسلت إليه المدينة وفدًا قدّم له تاجًا من الذهب دون السماح له بدخول المدينة وتقديم القرابين للإله ملكارت وهو ما كان حصرا على ملوك صور، فحاصر الاسكندر صور (التي كانت جزيرة تبعد مئات الأمتار عن الشاطئ ) 332 ق.م سبعة أشهر عجز خلالها عن اقتحام المدينة التي قاومت بتحريض فارسي قرطاجي، إلا أن “الاسكندر” حصل على الدعم البحري من الأخوات الفينيقيات “صيدا وجبيل وأرواد”، فيما لم تقدم “قرطاجة” أي دعم لـ “صور”، وعند اقتحام المدينة قام المقدونيون بقتل آلاف من سكانها وحاميتها، وقاموا باسترقاق وبيع ثلاثين ألف.
بين السنوات 264 ق.م. و146 ق.م. دارت الحرب البونية (الفونيقية) بين روما (وريثة اليونانيين) وقرطاج (وريثة صور) وانتهت الحرب بالتدمير الكامل لقرطاجة وإزالتها من الخارطة السياسية والجغرافية وزرع الملح في تربتها كي لا تعود إلى الحياة، وبعد تدمير قرطاجة، تقدمت الإمبراطورية الرومانية وسيطرت على مملكة البطالمة في مصر، ومملكة السلوقيين وغيرها من الممالك ومن ضمنها (البتراء و تدمر وأرواد) في سوريا، وفي نهاية هذه الحرب تحولت روما إلى السيد المطلق على حوض البحر الأبيض المتوسط.
اقرأ أيضاً: الاسكندر والشرق الأوسط الجديد .. حسان يونس
خلال سقوط “صيدا وصور وقرطاجة” ناورت “أرواد” كثيرا للحفاظ على مكانتها وحريتها، ولعبت على حبال النزاعات السلوقية –الرومانية، إلا أن تحول البحر المتوسط إلى بحيرة رومانية أفقد أرواد أسواقها ومكانتها التجارية فاضمحل دورها تماما.
خلال مجال زمني يقارب ألف عام قبل الميلاد كان الساحل السوري مرفأ رست في مياهه الحضارة، وهو ما جذب مختلف أشكال النفوذ الخارجي، ورغم أن المدن الفينيقية خضعت قبل الفرس واليونانيين والرومان للنفوذ البابلي والآشوري والكلداني، إلا أن ذلك الخضوع تراوح بين دفع الجزية ومعاهدات الصلح والحصار الطويل، دون أن ينتهي إلى البطش الحاقد والمدمر.
لكن وكنتيجة لهذا التاريخ الطويل من التساقط المتتابع، فإن المدن الفينيقية اتفقت دون وعي على أن تتساقط في مهب النفوذ الخارجي الطاغي، كما أن الفرس واليونانيين والرومان (رغم أنهم أعداء خاضوا أطول الحروب في التاريخ) إلا أنهم اتفقوا كذلك دون وعي مسبق على إطفاء شعلة الحضارة على الساحل السوري وتحويله إلى متحف عائم تتحدث أطلاله عما كان، وربما عما سيكون، حيث لا تزال صور وصيدا بتوجههما السياسي المعاصر تختلفان في الولاء للمحاور الإقليمية -بشكل يكاد يطابق ما حدث في التاريخ القديم- ضمن إطار التجاذبات السياسية المعقدة التي يعيشها سائر الإقليم.
اقرأ أيضاً: سوريا وتاريخ من الغزو باسم الله – حسان يونس