حفيد المهاجر الكردي الذي أسس مجمعاً للغة العرب في سوريا
![](https://snacksyrian.com/wp-content/uploads/2019/10/شخصية-الأسبوع-محمد-كرد-علي.jpg)
“محمد كرد علي” الصحفي الإصلاحي والعالم الوزير
سناك سوري _ محمد العمر
حين شدّ “محمد” ابن العائلة الكردية رحاله قادماً من “العراق” نحو “دمشق” ليستقر فيها ويعمل في التجارة بين أسواقها لم يكن يعلم أنه سيُرزَق بحفيد يحمل اسمه ويخلّده في تاريخ العاصمة السورية.
فقد تزوّج ابنه الوحيد “عبد الرزاق” من امرأة شركسية تعود أصولها إلى “القوقاز” وأنجب منها عام 1876 ولداً أورثه اسم جدّه وعلى الرغم من أنّ الاسم لم يكن يعلق في ذاكرة من حوله لاحقاً إلا أنه علق في ذاكرة التاريخ للدلالة على مؤسس مجمع اللغة العربية ورئيسه الأول “محمد كرد علي”.
درس “كرد علي” في مدرسة “كافل سيباي” الأميرية في “دمشق” منذ بلوغه الخامسة من عمره، ويروي في مذكراته أنه ذهب بصحبة والدته إلى منزل الشيخ “محمد الطنطاوي” حين كان في السادسة من عمره وحينها أدهشه مشهد الكتب المتراصّة على الرفوف وكان ذلك المشهد فاتحة عهد تولّعه بالقراءة.
تتلمذ “كرد علي” على يد كبار العلماء في “دمشق” حينها كالشيخ “طاهر الجزائري” و الشيخ “سليم البخاري” عالم اللغة والأدب والشيخ “محمد المبارك”، كما أكمل دراسته الثانوية في المدرسة الرشدية ونال شهادتها المتوسطة، فيما دفعه شغفه بالعلم والقراءة إلى تعلّم التركية والفرنسية حيث راح يخوض في دراسة الفيزياء والعلوم الطبيعية باللغة الفرنسية في مدرسة العازاريين.
بدأ “كرد علي” حياته العملية في الجرائد حيث عُيّن محرّراً لأول جريدة ظهرت في “دمشق” باسم جريدة “الشام” الأسبوعية لصاحبها “مصطفى أفندي واصف” لمدة 3 أعوام كان يتألم “كرد علي” خلالها حين يحذف له صاحبها مقاطع من مقالاته خوفاً من إغضاب الحكومة العثمانية التي كان “واصف” أحد موظّفيها.
لاحقاً بدأ الكتابة في مجلة “المقتطف” المصرية التي افتتح مشواره فيها بمقالة حملت عنوان “أصل الوهابية” درس فيها المذهب الوهّابي بأسلوب علمي كما يقول في مذكراته مضيفاً أن تلك المقالة تسببت في إلصاق تهمة الانتماء إلى الوهابية به نظراً للعداء الذي كان قائماً بين الحكومة العثمانية وحكام نجد الوهابيين.
وحين سافر “كرد علي” إلى “مصر” عمل في جريدة “الرائد المصري” لصاحبها اللبناني “نقولا شحادة” لكنه عاد إلى الشام بعدها بعشرة أشهر بسبب انتشار الأوبئة في “مصر” تلك الأيام، وبحلول العام 1905 عاد إلى “مصر” مرة أخرى لكنه أصدر خلالها مجلة “المقتبس” التي خصّصها للعلوم والآداب.
دعا “كرد علي” عبر كتاباته الصحفية إلى الإصلاح في بنية الدولة وطرد الموظفين المتورطين بالفساد وتحفيز العرب على العمل ونشر العلم بين الناس، وكانت دعواته تلك سبباً لكثير من المتاعب والدعاوى التي أقامها الحكام العثمانيون ضده.
كان “كرد علي” صاحب نفس إصلاحي يرى في نشر العلم خير وسيلة للنهضة فاستبشر خيراً في إعلان الدستور العثماني عام 1908 ووصف تلك السنوات بأنها عهد الدستور والحرية، وذكر أن كتاباته في جريدة “المقتبس” التي أسسها في “دمشق”، دفعت والي “سوريا” العثماني “ناظم باشا” إلى رفع عشرات الدعاوى ضده حيث بلغت ذات مرة 30 دعوى في وقت واحد اتُّهم خلالها “كرد علي” بالعمل على إسقاط الوالي وتحريض الناس ضد الحكومة العثمانية.
وبينما شكّلت جريدة “المقتبس” منبراً للتعبير عن الرأي في البلاد العربية فإنها دفعت أنصار حزب “الاتحاد والترقي” المنادين بالتتريك إلى محاربة الجريدة والوقوف ضدها واستهداف “كرد علي” الذي روى أنّ الاتحاديين كلّفوا أحد الأشخاص باغتياله لكنه لم يتجرّأ على تلك المهمة خوفاً من رد فعل أهالي “دمشق” الذين يحفظون مكانة “كرد علي”.
اقرأ أيضاً:“رضا سعيد” مؤسس “الجامعة السورية” وقائد تعريب التعليم
حمل العام 1919 التغيير الأبرز في حياة “كرد علي” حين عرض عليه “علي رضا الركابي” أول رئيس حكومة عربية بعد خروج العثمانيين من “سوريا” أن يتولّى منصباً في ديوان المعارف، إلا أن “كرد علي” لم يقبل المنصب وطلب بدلاً عنه أن يؤسس “مجمع اللغة العربية” فوافق “الركابي” وعهد إلى “كرد علي” بإنشاء المجمع ورئاسته.
واجه رئيس مجمع اللغة العربية صعوبات كثيرة في مهمته خلال تلك السنوات العاصفة بتأثير الانتداب والسياسيين على البلاد وانشغال الناس بقضايا السياسة عن الاهتمام بالتطوير العلمي في الوقت الذي كان فيه “كرد علي” يكافح في سبيل جمع المخطوطات والقطع الأثرية وضمها لدار الآثار التي أنشأها في المجمع والتي كانت انطلاقةً أولى لدار الآثار الحالية في “دمشق”.
تولّى “كرد علي” وزارة المعارف أكثر من مرة في الحكومات المتعاقبة، وخاض تجربة لم تمتد فترة طويلة في تدريس اللغة العربية معهد الحقوق بـ”دمشق”، فيما كان التأليف وتطوير المجمع يشغله عمّا سواه، كما ساهم أيضاً بعد لقائه ملك مصر “فؤاد الأول” في تأسيس مجمع “القاهرة” الدولي وبقي عضواً فيه على مدار عشرين سنة.
لم ينقطع “كرد علي” عن الكتابة والتأليف حتى آخر سنوات حياته فوضع عشرات الكتب والمؤلفات ومئات المحاضرات والمقالات في مجالات مختلفة ساعده على الخوض فيها إتقانه التركية والفرنسية واطلاعه على مؤلفات الغرب ولعلّ كتابه التاريخي “خطط الشام” يعتبر واحداً من أشهر مؤلفاته، إضافة إلى أنه وضع مذكراته في 4 مجلدات تحدث فيها عن المراحل التاريخية المختلفة التي عاصرها.
كان لـ”كرد علي” 4 بنات وولدين من زوجته الدمشقية “عائشة غنام”، وكان يمتلك أفكاراً متطورة في ذلك العصر حول حقوق المرأة في التعليم والميراث واختيار الشريك على الرغم من تحفظه على مبادئ أخرى كحق المرأة في الانتخاب أو حرية العمل.
في اليوم الثاني من شهر نيسان 1953 ودّعت “دمشق” حفيد المهاجر الكردي الذي أغنى تاريخها الفكري بمؤلفاته وكتاباته، حيث شيّع جثمانه إلى مقبرة “الباب الصغير” ليتم دفنه بالقرب من قبر الخليفة الأموي “معاوية بن أبي سفيان”.
اقرأ أيضاً:التركة الثقيلة بين الكواكبي و سعدالله ونوس