الرئيسيةرأي وتحليل

حروب الطاعة والتمرد_ أيهم محمود

هدر طاقة المتمردين تعني فرصاً أقل للمجتمعات المحافظة في البقاء على قيد الحياة وقيد الوجود

سناك سوري – أيهم محمود

يواجه التعليم في كثير من المنظومات الاجتماعية معضلة رئيسية تتمثل في تعارض طبيعته وجوهره مع حاجات المجتمعات المحافظة التي تريد الإبقاء على استقرارها الحالي ولو على حساب الارتقاء والتقدم، تتفاقم هذه الظاهرة في المجتمعات المحكومة بديكتاتوريات قاسية أو بأنظمة دينية كما هو الحال في كثير من مناطق الشرق.

بُني التعليم العام والتعليم الجامعي بشكل خاص فوق صخرةٍ صلبة ساهم في صنعها عشرات آلاف العلماء المبدعين عبر الزمن بعد تمردهم على واقعهم العلمي والاجتماعي وهو الشرط اللازم لابتكار الجديد وتحريك السكون والثبات باتجاه الحركة والتغيير، إبداع الجديد الذي ينقض القديم الموروث لا يتم إلا عبر التمرد عليه ونفيه من الوجود، الإبداع العلمي في أبسط حالاته هو إعادة تفسير وصياغة للعالم تتجاوز الخلل في التفسير القديم للظواهر التي تواجه وعي الإنسان وهذا أمر لا تتسامح معه المجتمعات المحافظة التي تظن نفسها أنها بأفضل حالاتها وأنها بلغت الكمال وأن أي تغيير في منظومتها الحالية سيؤدي إلى تراجعها حضارياً وهذا أضعف إيمانها فشعوبٌ ومجتمعاتٌ أخرى ترى الماضي أفضل بكثير من الحاضر وهو أكثر تقدماً لذلك مهمة التعليم الرئيسة والجوهرية هي تأمين سبل العودة الميمونة إلى الماضي المجيد وهو ما يقابل حرفياً إخصاء العملية التعليمية برمتها وتدمير الأسس التي قامت عليها والأهداف التي تسعى وراءها.

اقرأ أيضاً: العلمانية الانتقائية- أيهم محمود

في جامعات المجتمعات المحافظة يتم انتخاب الطلبة الذي يطيعون منهج أساذتهم حرفياً بل بعض الجامعات يذهب أبعد من ذلك عبر تصفية طلاب العلم وفق عوامل لا علاقة لها بالمعرفة وإبداع الطالب في مجاله حيث يتم استخدام التقييم السياسي ووضعه شرطاً لازماً للانتماء اللاحق للهيئات التدريسية فيها، في الجامعات التي لا يسمح النظام العام بهذا الخرق الفاضح لأسس التعليم فيها نجد أن عملية انتخاب المطيعين مستمرة لكنها تتم بصورةٍ ضمنية غير معلنة عبر انتخاب الأساتذة لطلابهم وفق مصافي ما قبل حضارية – طائفية، عشائرية، سياسية.. الخ- تضمن أن نسبة التمرد المتسرب من هذه المصافي تقع تحت الحد المؤثر في المجتمعات وبالتالي لا توجد خطورة حقيقية على النظام العام بل إن عملية اختيار نسبة ضئيلة من المختلفين المتمردين تقدم خدمات متنوعة للنظام الاجتماعي السائد منها إظهار التحطيم المستمر للمختلف وبالتالي ردع بقية الذين يفكرون بالتمرد ومنها أيضاً إظهار تسامح المجتمعات المحافظة وانفتاحها وهذا الأمر ليس موجهاً للاستهلاك المحلي بل هو موجه للتصدير إلى الخارج حصراً، هذا التسامح الشكلي ربما كان مصدره ظهور جذر عميق غير مرئي لبعض الخجل المتبقي في عقول الكوادر التعليمية حين يذكرون أسماء العلماء يومياً عشرات المرات أمام طلابهم وهم يعرفون ضمناً أنهم علماء لأنهم متمردين ومجددين، هذا الخجل يشبه إلى حد كبير إخراج السارق زكاة أمواله للفقراء لكي يبارك الله له بها ويجعلها حلالاً.

اقرأ أيضاً: الغضب الإيجابي – أيهم محمود

في التعليم الجامعي يُنتخب المطيعين لذلك لا يوجد أدنى أمل في تحريض الجامعات عمليات الإنتاج الصناعي والإبداع وتسجيل براءات الاختراع، الجامعات هي حلقة الإخصاء الفكري النهائية التي تضمن إنتاج كائنات مطيعة للشركات وأهدافها الربحية وتضمن أيضاً إنتاج كائنات تطيع المدراء والأحزاب السياسية وشيوخ الدين وتطيع كافة القوى التي تؤيد جمود مجتمعاتها، هذه الوصفة للأسف لا تنفع في الصراع الحضاري مع بقية شعوب الأرض فهناك من يعمل ويبدع بل ويستقطب العقول المتمردة التي تعجز بلدانها الأصلية عن تشغيلها والاحتفاظ بها، لم يعد الصراع القادم على موارد الطاقة والغذاء في هذا الكوكب بالأمر البعيد، هدر طاقة التمرد وطاقة المتمردين تعني فرصاً أقل للمجتمعات المحافظة في البقاء على قيد الحياة وقيد الوجود، ربما يجب إيجاد مؤسسات تعليمية خاصة تستطيع استقطاب المبدعين وتأسيس نوع جديد من التعليم، لا أمل يُذكر في إصلاح كتلٍ كبيرة متخشبة مثل جامعات المجتمعات المحافظة، لا أقصد هنا بكلمة “الخاص” تلك المؤسسات الريعية التجارية التي تسمي نفسها جامعات بل أقصد أفكاراً جديدة في التعليم وأمكنة اجتماعية ومكانة خاصة تمنح هامشاً مقبولاً يمكن للمبدعين التنفس فيه إن أرادت هذه المجتمعات البقاء على قيد الحياة وعدم اللحاق بالديناصورات إلى متاحف التاريخ الطبيعي.

اقرأ أيضاً: خنق التعليم المهني_ أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى