الرئيسيةرأي وتحليل

توقعات الفلك والتفكير الغيبي – ناجي سعيد

يلصقون كل شيء بالله.. السيء والجيد ويقولون: ربنا عايز كده

بداية السنة الجديدة ليست متعلّقة بالتقويم الزمني في هذا الزمن، فمن يتابع البرامج التلفزيونيّة، يعلم بأن منطق المال يسود ويُصبح هو المُتحكّم. فالمحطّة التي تدفع أكثر تستضيف شخصًا له جمهور أعرض. والموضة السائدة اليوم، لا تنحصر في الحفلات الغنائية والاستعراضيّة، لا بل “نجوم التوقّعات” الذين يحتلّون الشاشات الصغيرة.

سناك سوري-ناجي سعيد

ومشكلتي لا تتعلّق بالمنحى التجاري والمادّي الذي يطغى على مناسبة رأس السنة، التي فقدت الطعم العائلي أو المجتمعي المتآلف والمتقارب، لا بلّ بإعطاء رصيد عالٍ لنمط التفكير الغيبي. والتفكير الغيبي، يختلف عن الإيمان بالغيبيّات.

نعم وأنا الآن سأقدّم مثال تاريخي على ما أقول. من منّا لا يعرف الحضارة الفرعونيّة؟ فجولة بسيطة على إنجازات الفراعنة، نُدرك كيف تفوق الفراعنة في علم الفلك، حتى أقاموا أول مرصد فلكي في التاريخ، وابتدعوا تقويمًا زمنيًا عرفوا به عدد السنين والحساب، وأبدعوا في العمارة التي تحدت الزمن. وبحسابات هندسية وفلكية مدهشة. نعم فبناء الأهرامات يتضمّن أسرارًا لم تُكشف حتّى الآن.

والمُدهش بهذه الحضارة التزامها العلمي بمسار عمليٍ يحترم الانجازات التي تحاكي حاجات الإنسان والبشريّة جمعاء. والذي جعلني أذكر الفراعنة، هو كيف أنّ هذه الحضارة تتّبع نمط التفكير العلمي والنقدي في إنجازاتها وبالوقت عينه تحافظ وتحترم الإيمان بالغيبيّات!.

اقرأ أيضاً: قبل احتفالات رأس السنة فلنهدأ قليلاً ولنفكر لماذا الرصاص؟ – ناجي سعيد

ومن هنا نُدرك أن الإيمان بالغيبيّات يختلف عن التفكير الغيبي. ولا أودّ الحكم على الناس، بل بتوصيف الواقع، نجد أن تفكيرًا غيبيًّا يسيطر على عقول مجتمعنا “المقهور”! فمعاناة الناس لا تسمح لهم باعتماد طريقة تفكير علميّة، فترى الناس يتصرّفون وفق مرجعيّاتهم الغيبيّة! فالمراجع التاريخيّة (الأسلاف) أو الدينيّة، تُصبح بمثابة مراجع مُقدّسة.

ومن هذا المنطلق تُصبح عادة “التبعيّة” للمراجع (الدينيّة مثلاً) نمط تفكير يدفع الناس إلى التسليم للقضاء والقدر، وإلصاق كل الحوادث (السيّئة والجيّدة) بالله، وكما يقولون في مصر: “ربّنا عايز كده”. وذلك دون محاولة اتّباع مسار تفكير نقدي وواقعي، يساهم في بناء خطوة إلى الأمام.

وفي عودة للحديث عن برامج التوقّعات الفلكيّة التي سيطرت على شاشات التلفاز في سهرة رأس السنة، فغالبيّة الناس تتابعها لأملها بانتظار أي شيءٍ جميل. ويمكنني استعارة ما قاله الراحل سعدالله ونّوس: “إنّنا محكومون بالأمل”، فعامة الناس تُنصت إلى برامج التوقّعات آملةً بأن تُمطر أحلامها لتزدهر حياتها البائسة.

لكنّ الأمل لا يكفي للتغيير. فالأمل هو الإيمان بقدراتنا، والتي لا تترجم إلاّ بطريقة عملية من خلال تكوين المعرفة وتطويرها. وبهذا المسار لا نكون رهينة للتفكير الغيبي، وبالتأكيد لا أودّ الخلط بين الإيمان بالغيبيّات والتفكير الغيبي. فالإيمان مساحة عاطفية، يمكننا أن نحصرها في “العواطف” ونشاطاتها. وبالطبع لا بد من تحييد الدماغ هنا ومهارته: ” التفكير النقدي”، هذا إذا لم تتطلّب المسألة المطروحة هذه المهارة الدماغيّة.

لا يمكنني منع الكثيرين من ربط نشاطهم وحركتهم اليومية المعتادة (العمل والجامعة..) بالاستماع إلى برنامج الأبراج اليومية مع فنجان القهوة. ولست أُعمّم ما أقول بالطبع. فالأبراج لكثيرين من الناس أصبحت روتينًا لا أثر له ولا تأثير على النشاط المهني الذي يمضي قُدمًا ويتابع تطوّر دائم.

مشكلتي تكمن في المصيبة الكبرى التي تُسلّي الناس. برامج التوقّعات الفلكية التي تعزّز التجارة بآمال الناس ومشاعرهم، ومن جهة ثانية، فجديرٌ بالذكر، بأن علم الفلك يستند بمنحى علمي ليذهب إلى تقسيم طباع البشر المستند على عناصر الطبيعة الأربعة (الهواء/ الماء/ النار/ التراب). وهذا علمٌ قائم بذاته، ولا يمنع الناس من التفكير واستخدام مهارات الدماغ قابعين في صندوق الإيمان بالغيبيّات. إن مقولة “متل ما الله بيريد” لا تعني أن الله أراد منع التفكير والعمل. فما يقولونه القدماء: الله عرفوه بالعقل!.

اقرأ أيضاً: الشفقة على الذات في مواجهة الغضب – ناجي سعيد

 

زر الذهاب إلى الأعلى