اللاعنف ومستقبل الإنسان- ناجي سعيد
كيف لمُستقبل بشريّ مُلطّخ بالهموم اليوميّة أن يُضيء للبشريّة بأنّ طريقه يجب أن يكون مُعبّدًا باللاعنف؟
سناك سوري – ناجي سعيد
اشتهر “توماس روبرت مالتوس” هو عالم وباحث بنظرياته حول تفسير ظاهرة التكاثر السكّاني، كما أنّه يُعدّ من أهمّ منظّري الإقتصاد السياسي في القرن التاسع عشر، وقد صاغ هذا العالِم نظريّته الشهيرة في كتابٍ نشره لأوّل مرّة عام 1798 بصفة مجهولة دون ذكر اسم الكاتب، ويحمل عنوان “مقالة حول مبدأ السكّان”.
وتقول النظريّة بأنّ وتيرة التكاثر السكّاني هي أسرع من وتيرة إزدياد المحاصيل الزراعيّة وكمّيات الغذاء المُتوفّرة للإستهلاك. وهذا من شأنه أن يؤدّي في المحصّلة إلى اختلال التوازن بين عدد السكّان من جهة وإنتاج الغذاء اللازم لإطعامهم من جهة أخرى، ممّا يُنذر بمشاكل إقتصاديّة وإجتماعيّة خطيرة من فقر وجوع، وبروز لظواهر مجتمعيّة سيّئة كالتشرّد والتسوّل واحتراف النصب والسرقة. وهذا الكلام كان في القرن الثامن عشر، فكيف الحال في القرن الحادي والعشرين؟ ونحن تحت سيطرة أزمة صحيّة معيشيّة اقتصاديّة؟ فالجائحة السائدة الآن والتي لا تزال مُتواصلة الإنتشار، تكدّست مع عدّة أزمات، الدولار المُتصاعد سعر صرفه، والأسعار التي تحرق السِلع الغذائيّة الأساسيّة، تراكم هذه الأزمات لا تمنع المواطن من التركيز والإنشغال في الحصول على قوته اليومي.
اقرأ أيضاً:كورونا ومقاومة مكمن العنف _ ناجي سعيد
والنُخبة من الناس المعنيّين بالشأن العام الإنساني يبحثون عن السُبُل لإقناع الناس بأنّ اللاعنف هو الخيار الذي يحميهم ومُستقبلهم. وكيف لمُستقبل بشريّ مُلطّخ بالهموم اليوميّة، أن يُضيء للبشريّة بأنّ طريقه يجب أن يكون مُعبّدًا باللاعنف؟ هل نستطيع منعَ رجلٍ-عجز عن شراء الخبز لأطفاله- باستخدام العنف، وإن كان بشكل متطرّف، عند عدم قدرته على تسديد ثمن كسرة خبز يسدّ بها رمق أطفاله؟
إن الجائع لا يمكنه أن يُفكّر بالمستقبل اللاعنفي. فاللاعنف ليس زهرةً في فوّهة بندقيّة لجندي مُحارب، بل اللاعنف يسبقهُ بناء منظومة مُتكاملة، تبدأ بتأمين الحقوق الإنسانيّة والمدنيّة، فمُستقبل اللاعنف يبدأ بخطوة صعبة المنال، ألا وهي إشراك المجتمع بأكمله في الإنجاز المطلوب. فلو أردنا حربًا لاعنفية، علينا وضع خطّة تفسح لكلّ مواطن دورًا يناسبه للمشاركة. فالمرأة والطفل والشاب والعجوز يؤدّون دورًا يناسب قدراتهم وإمكانياتهم. بينما الحرب المُسلّحة تقتصر على الرجال الأشدّاء حَمَلَة السلاح، بينما يختبئ الأطفال والنساء في الملاجئ.
وقد أظهرت تجربة “غاندي” في تحرير الهند، دور النساء في إسعاف الرجال المصابين في التحرّكات التي واجهوا فيها الجيش البريطاني، وحين كان الجنود البريطانيون يضربون الهنود بالعصي، فيدمّونهم، تهرع النساء لتلقّف المُصابين وإسعافهم. وعبر التاريخ نَدُرت التجارب التي أثبتت فعّالية اللاعنف في صنع المستقبل الزاهر. أضف إلى أنّ مسار حياة الجنس البشري، الذي يغلبه الطابع العاطفي الإنفعالي، غير مُؤهّل ليكون عقلانيًّا لتصويب مسار مستقبل اللاعنف الزاهر. وكي لا يظهر ما أكتبه في مظهر “النق” على اللاعنف، فيُفهم إحباطًا من خيار اللاعنف، فما كان منّي- وهذا أضعف الإيمان- إلاّ بخوض غمار العمل في المجال التربوي، لأنّ كلّي أمل بأنّ التغيير نحو اللاعنف يكمن في العناية بجيل الطفولة. وحتّى لو كان السير بطيء للوصول إلى إنجازٍ يُذكر.
اقرأ أيضاً:العنف في تربية الأطفال- ناجي سعيد
فهُم المُستقبل الذي يرسمه إيمانهم النظري والعملي باللاعنف. التربية الحقيقية السليمة تعنَى بالطفولة، والأطفال ببرائتهم ينشرون لاعنفًا في العالم، هذا لو نَمَوا في بيئة آمنة تحتضن اللاعنف الفطري الموجود أصلاً بداخلهم.
وقد قال غاندي:«الغاية هي الشجرة، والوسيلة هي البذرة.. إنّ الغاية موجودة في الوسيلة كما أنّ الشجرة موجودة في البذرة». وهكذا المُستقبل موجود في البذرة، فالطفولة هي البذرة الآمنة داخل شجرة المُستقبل. فلو تمّت العناية بالبذرة وتمّ سقيها فرحًا وحُبًّا وأمان، لكان المستقبل زاهرًا باللاعنف.
الأطفال يُولدون ولديهم أجنحة، ليتنا ندعهُم يطيرون، فالعالِم “روبرت مالتوسكان” باحثًا في علم الديموغرافيا، ولا أعتقد أنّه كان مُطّلعًا على اللاعنف، لا فلسفة ولا استراتيجيّات. فلا يمكننا أن نأخذ بعين الإعتبار النظرة التشاؤمية، فهي وليدة المعيار الكمّي المُتعلّق بإنتاج الأرض واستهلاك الناس للمنتوجات. أمّا المجال الذي أتحدّث عنه فهو المعيار النوعي الذي يعتمد على جيلٍ واعٍ بما يحمل من قيم ويؤمن بها ويبذل جهدًا لتطبيقها. وليس مجرّد إنسان استهلاكي. والمعيار النوعي هنا ينشر تربية تعتمد فنّ استخراج الأفكار، وليس حشو أدمغة الناس بها.
اقرأ أيضاً:التربية الجنسية في مواجهة اغتصاب الأطفال _ ناجي سعيد