اللاعنف في بعوضة محمود درويش – ناجي سعيد
قصيدة البعوضة لـ محمود درويش.. الدعوة للمقاومة اللاعنفية
اللاعنف في بعوضة محمود درويش… لقد أعدت مؤخراً قراءة قصيدة البعوضة للشاعر الكبير “محمد درويش” وقد لاحظت أن لدى الرجل في هذه القصيدة مقاربة لاعنفية متميزة.
سناك سوري-ناجي سعيد
يُقال أنّ الفن رسالة سامية! ولن نُبقيه عند هذا الحدّ فقط، فنحصره في الكلام المعسول الذي يشبه التصفيق عند نهاية أي عمل فنّي. (عمل مسرحي أو إلقاء قصيدة شعرية..).
محمود درويش .. قصيدة البعوضة
تبدأ قصيدة البعوضة بتعريف الشاعر للبعوضة، وقد اعتمد درويش في تقديم البعوضة للقارئ. بأنّ نفى عنها “الجنس”!. فحين يعلن درويش: “لا أعرف اسم مذكّرها”. فهو يجرّدها من الإنسانيّة، التي تحوي “المُذكّر والمؤنّث”. ولا إنسانيّتها تجعلها “أشدّ فتكًا من النميمة”.
ويتابع “درويش” وصفه، بأنّ البعوضة لا تكتفي بمصّ الدم، بل تزجّ بك في معركة عبثيّة، والمعركة التي تزجّك بها، تبدأ ليلاً في الظلام، ووصفها بـ “حمّى المتنبّي”. إشارةً إلى خطورة “الحمّى” التي أسهب المتنبّي بوصفها في قصيدة شهيرة!.
كطائرة حربية
وفي التفصيل، يقصد الشاعر الوصف الدقيق، ليلفت إلى صعوبة الموقف. فالبعوضة الصغيرة الحجم: “تزنّ وتطنّ كطائرة حربيّة”، لا يعلن وجودها سوى قصفها لهدفٍ محدّد. ويتابع درويش في القصيدة: بأن دمك هو هدف البعوضة، وحين تضيء الغرفة، بغاية مواجهة خصمك (البعوضة هنا)، تختفي فورًا. وهذا من موصفات العنف المرتكب لأي عدوان، تراه يضرب ويهرب.
ويلفت درويش إلى الحالة التي تصيب الشعب المُعتدى عليه من قِبَل العدو: ..”في ركنٍ ما من الغرفة والوساس”.. فبعد أي هجوم أو عدوان. تكثُر التصاريح وبيانات الإستنكار (الوساوس). والاستنكار المزعزم، ينزوي في ركنٍ من الغرفة. تمامًا كمن يقنع بقطعة من الوطن ارتأى العدو الغاصب أن يتركها لتختصر وطنًا محفور في عمق التاريخ.
وعندما يستكين العدو الغاصب “..ثمّ تقف على الحائط.. آمنة مسالمة كالمستسلمة..” تترجم رغبة الشعب بالمقاومة: ..تحاول أن تقتلها بفردة حذائك..” فتختفي وتراوغ. ولا يسعك إلاّ الشتيمة “..تشتمها بصوتٍ عال فلا تكترث..” الشتيمة في الواقع ليس سوى موقفًا عاجزًا من فلسطيني أبعدوه عن أرضه بالقوة، فرفع بندقيّته (تشتمها بصوتٍ عال..) وليس العجز جُبنًا! فالمقاومة لها طرق مختلفة.
اللاعنف في قصيدة البعوضة
لكنّ الشاعر وجد أن أسلوب العنف مع البعوضة هذه المرة لاينفع. فقد اتّبعت البعوضة أساليب المرواغة، والطنين القويّ. لتورّط النائم في الغرفة في معاركها التي لا تهدف إلاّ لمصّ دم الشعب. ودهاء الصهاينة يظهر من خلال دفع الشعب الفلسطيني إلى “معركة جانبيّة مع الأرق..”.
لكن البعوضة تحطُّ/ على الصفحة التي تقرؤها”.. وهذه إشارة واضحة إلى إنّ “الصفحة التي تقرأها”، هي الهويّة الثقافيّة التي يجب على العدو احترامها وتقديرها، لا تدميرها وحرقها. وحين تحطّ البعوضة على صفحتك : “.. فتفرح قائلاً في / سرّك : لقد وَقَعَتْ في الفخّ . وتطوي/ الكتاب عليها بقُوَّة : قَتَلْتُها… قتلتُها !” وهذه محاولة الفلسطينيين للانجرار إلى العنف، الذي أفشلته البعوضة، العدوّ.
ويتابع الشاعر وصف مغامرته مع البعوضة: ..” وحين تفتح الكتاب لتزهو بانتصارك ، لا تجد/ البعوضة ولا الكلمات. كتابك أَبيض..” فالقبول بخوض العنف. ليس سوى استسلام وخضوع، للغة العدوّ التي لا يعرف غيرها. فاستخدام لغة العنف، هو فشل ذريع لأي مقاومة عدوان.
فالمُعتدِي يبذل جهدًا ليورّط المُعتدَى عليه وجرّه للعنف. وهذا ما يدعى شريعة “العين بالعين” لإغراق العالم ببحر دماء. ومحاولة قتل البعوضة (العدو) أفقدت الشاعر الكلمات.. “كتابك أبيض” فالبعوضة امتصّت دمك وثقافتك!. ويختم درويش، وهذا ما يقرّب رسالة الفنّ الحقيقي إلى السموّ.
البعوضة ،
ولا أعرف اسم مُذَكَّرها ، ليست استعارة ولا
كنايةً ولا تورية. إنها حشرة تحبُّ دمك
وتَشُمُّه عن بُعْد عشرين ميلاً . ولا سبيل
لك لمساومتها على هدنة غير وسيلة واحدة :
أن تغيِّر فصيلةَ دمك.
للفن في العالم صولات وجولات في الوقوف موقفًا إنسانيًّا ضد العنف ومع مقاومته. والأشهر، كانت لوحة “الغيرنيكا” للفنّان العالمي بابلو بيكاسو. الذي رسم البلدة الإسبانية التي قصفتها طائرات ألمانية وإيطالية دعمًا للقوميين الإسبان إباّن الحرب الأهلية في إسبانيا.
ومن بيكاسو الرسام، إلى ناجي العلي الذي اغتاله الصهاينة في لندن، بعدما أبعدوه عن فلسطين. وقد أزعجتهم رسوماته الكاريكاتيريّة المُذيّلة بحنظلة وهو يعطي ظهره للعالم. هذه عيّنة من الفن الذي وُجد ليحاول تغيير المجتمع.