القناعة كنزُ فنى وولَّى زمنه – ناجي سعيد
الحياة المعيشية التي يطالب بها شعوب منطقتنا … حق من حقوقهم في الدول المتقدمة
سناك سوري – ناجي سعيد
قد لا يحتمل الموضوع تحليلاً إضافيًّا، نعم فالثورة على ما أظنّ ليست هدفًا ولا مطلب سياسي يسعى من خلاله الإنسان لقلب نظام حكم لا يعجبه في وطنه. فالحالة التي أودّ التعبير عنها مرتبطة بحقّ من الحقوق التي أجمعت عليها شرعات حقوق الإنسان حول العالم. نعم فبأي دولة يتظاهر الناس بهدف الحصول على لقمة شريفة وحياة مُستقرّة هانئة، مع العلم بأن هذه الأهداف ليست سوى حقوق تقدّمها الدول المتقدّمة لشعوبها.
وقد خطرت ببالي هذه الفكرة من خلال تأملي بتحرّك سابق كنت من المشاركين به بإصرار، لا بل من فريق التخطيط والتنفيذ، ولسببٍ ثانٍ، كان حديثًا عابرًا على ما يُسمّى “الواتساب”، هذا المُحرك المباشر للثورة عند قرار الحكومة اللبنانية برفع كلفته كي لا يُصبح بمتناول الجميع. والحديث الذي صار بيني وبين “صهري” الفلسطيني اللاجئ والذي يحمل هذه الصفة ليس بقرارٍ متعمّد منه، فقد لجأ أهله بعد نكبة 1948 إبّان الإغتصاب الإسرائيلي لدولة فلسطين التاريخية، ثم قطنوا في مخيم “المية ومية” شرق مدينة صيدا، تزوّج “الأستاذ أمين من صبحية” وأنجبا أولادًا، كان صهري منهم.
إذًا فما نتوّهم بأنه خيار هوية وقد نتعصّب لأجله ولأجل الدفاع عنه، قد لا يكون من خيارنا، فهل نقتنع بخيار فرضته علينا الأحداث التاريخية التي مرّينا بها مُرغمين. بالإضافة إلى عدم حريّة خيارنا، هل تدوس هذه الأحداث التاريخية، أو السياق التاريخي، على حُلمنا بطريقها وهي تقتل خيارنا بالهوية والإنتماء؟
اقرأ أيضاً: التمرد على الطاعة في لبنان… ناجي سعيد
لقد رعبتني التساؤلات التي دوّت من “قيم” سالم (صهري) حول الحقوق، والتي يجب أن تكون منزلة بل مُقدّسة إنسانيًّا. نعم ونحن نتحدّث في مجال مؤمنين لا بل مقتنعين كل الإقتناع به، وكم هو مُوجع أن نكون أنا وسالم المُعدّين لأكثر من دليل تدريبي يعطى للناشطين/ات الحقوقيين/ات والمدرّسين/ات، ونحن محرومان من مفهوم المواطنة أقلّه. سالم بلا وطن، ويكتب دليل تعليمي للآخرين عن أهمية مفهوم المواطنة للحفاظ على الوطن، وأنا ناضلت في الساحات في أكثر من حراك ضدّ السلطة وشاركت في مراقبة انتخابات لست راضًيا عن قانونها لأنه طائفي. وكما قال “أبو سليمان الواعظ :”وغيرُ تقيّ يأمرُ الناس بالتُقى طبيبٌ يداوي الناس وهو عليلُ”. ليست حكمة هذه ابدًا، فهي بيتُ شعرٍ لأحد علماء الصوفيّة، تحوّل إلى قول مأثور وإتّخذها الناس حكمة. وتناقل بيتُ الشعر هذا بالتواتر، ليُغذّي الهوية الشعبية التي تعاني من مرض التفكير الغيبي، حيث ينقصها التفكير النقدي. فغالبية الناس تتلقّى المعلومة، معرفةً كانت أو غير ذلك، دون تحمّل مشقّة العناء بالبحث عن مصدرها. وقد أتى زمن “الأزرار التكنولوجيّة” ليضاعف كسل الناس، ويزيد من فرصة الحصول السريع على المعلومة دون التأكّد من صحّتها. وهذا ما نسمّيه زمن “الفاست فوود”، أو الـ”ديليفري” فالناس لم تعد تهتمّ بعمل أي شيء (طعام أو غير طعام) بيديها، طالما هناك من يتفرّغ لهذا.
واعتقد أن معيار السرعة في الوصول إلى الشيء أصبح هاجسًا وفضّله الناس عن الغاية المنشودة التي يبحثون عنها. وهناك جملة كان يقولها دكتور درّسني في قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية: “طولت إيدو هالإنسان”. وقد كان يشرحها بتفسير: ” هَمُّ العلماء المخترعين هو إراحة الناس”. لقد عايشتُ أنا، جيل جهاز التلفاز عندما كنّا “نقوم من مطرحنا” ونفرّط في الدفء لتغيير قناة التلفاز التي نودّ مشاهدتها، أمّا الآن والفضل للعلماء بتشجيع هذا الكسل، نضغط على أزرار الريموت كونترول ونحن جالسون متنعمّون بالدفء..
هل أستطيع التصريح بأن الثورة هي جرأة مواجهة هذا الدفء؟ وقد خطر ببالي الآن جُملة وهي مقولة للناقد الفنّي الفرنسي “جان كوكتو” : “كُلّما شعرت بدفء الوسادة تحت رأسي، ركلتها بعيدًا، فالقلق يجب أن يكون وسادة الفنّان”. وهذه الجملة بالطبع لا تُعتبر “نقّ”، بل حرص شديد من فنّان وتوصية منه لدفع الفنانين في شتّى المجالات للبحث الدائم والسؤال عن الحقيقة أو “وهم الحقيقة” عندما يظنّ نفسه الباحث بأن قدميه وطأت أرضًا صلبة، فهو يشعر هكذا، إنما مُعطيات مختلفة وظروف مغايرة تجعل الباحثين الآخرين يؤكّدون بأن أرضه الصلبة هي أرضٌ شديدة الرخاوة تحت أقدام غيره. التغيير مطلوب في حياتنا، واستمراريته واجب، لمواكبة العصر الذي نعيشه. طوبى للقابعين القانعين في أماكنهم، أتمنّى أن تمتلكوا جرأة كسر الأيقونات التي أقنعتكم، فالقناعة كنزٌ.. فنى وولّى زمنه.
اقرأ أيضاً: الجياع يثورون – ناجي سعيد