ليس كلّ ما يلمع ذهبًا! فالاقتراب من الشيء كفيل بكشف الحقيقة، قد تخدعنا الحواسّ لو اعتمدنا عليها من بعيد. نعم فقد يتهيّأ لنا انعكاس أشعّة الشمس على الإسفلت ماءًا!، ولكن ينجلي الأمر فور اقترابنا من الماء المُحتمل. حينها فقط نعرف أنّه ليس سوى انعكاس الضوء على الطريق الإسفلتي! وهذه النظريّة الفيزيائيّة يمكننا إسقاطها على العلاقات الإنسانيّة. وهذا من مُنطلق علمي، لذا نجد عامّة الناس يستخدمون هذه المقولة حين يكتشفون خداع شخصٍ لوقتٍ طويل ولسببً ما يدركون حقيقته! وفي المساحات الخاصّة والعلاقات الإنسانيّة، يمكن للمخدوع أن يتلافى العلاقة مع الخادع.
سناك سوري-ناجي سعيد
ولكنّ حين ندخل المساحة العامّة، تخرج السيطرة من يد الفرد. فتصبح الهويّة من الممتلكات العامّة. والمثال الحيّ على ذلك هي “الشهرة”. فالشهرة هي أن يسلّم “المشهور” – وتحديدًا حين يدخل عالم الفنّ والسياسة- هوّيّته الفردية لتُصبح ملك عامّة الناس. وأفضل مثل على ذلك نراه لدى العديد من المُمثّلات (على سبيل المثال) ترتدينَ الحجاب وتنزعه، وذلك بسبب ضغوطات العامّة، فالألسنة لا ترحم خصوصيّة المشاهير.
وطبيعي ما حدث خلال حفل تقديم جوائز الأوسكار، حين أقدم المُمثّل ويل سميث على صفع كريس روك بعد أن سخِر من الرأس الحليق لجادا بينكيت زوجة سميث، وبشكل طبيعي تابع الحفل واستلم جائزة أفضل مُمثّل عن دوره في فيلم الملك ريتشارد! وما لا استغربه هو “جهل” العالم بمعايير اللاعنف! وهذا ليس بمقدور عديدين التحكّم به! فكما أخبرنا من قبل أوسكار وايلد: هؤلاء الناس هم أناس آخرون!! وما يقصده بالآخرين هو تدخّل مساحات تربية الناس التي تعنى بالهويّة الجماعيّة. فمعظم الناس تلقّوا تربية فرديّة تراعي صورة الفرد بنظر الآخرين. ولكنّهم لم يتلقّوا تربية لا عنفيّة، تؤهّل الفرد لمراعاة قيمًا إنسانيّة. ففي عصر الصورة والتكنولوجيا، أصبحت القيم هي شكليّة خارجية تعنى بالمظاهر فقط، ولا يعنيها قيم الإنسان واللاعنف!.
اقرأ أيضاً: العين مش بالعين وإلا العالم سيصبح أعمى – ناجي سعيد
فغالبيّة الناس لا يملكون حتّى أدنى الإستراتيجيّات التي تخوّلهم التعبير عن مشاعرهم ومواقفهم بطريقة لا عنفيّة!! وأنا أعتقد وشبه مُتأكّد بأن سميث حين كان طفلاً، لم يكن ليتقاسم “سندويشته المدرسية” مع زميله الجائع، بل كان يُفاخر بملْ بطنه دونما الآخرين. والمُستغرب أكثر هو الجمهور “المخملي” الذي يحضر الاحتفال! فلا اعتراض على رفض سميث لتنمّر مُقدّم الحفل على زوجته، بالطبع، ولكن ألا يوجد من هذا المجتمع المخملي المكوّن من عدّة مشاهير، مُثقّف لاعنفي يعترض على “الضرب”؟ أولا يدري هذا المُمثّل أنّ سلوكه أمام العامّة وخلال حدث عالمي تشاهده غالبية العالم في الكرة الأرضيّة؟ وبأن عامّة الناس يعتبرون هذا “المشهور” قدوةً يُقلّدون سلوكه العلني؟.
وهذا السلوك أعتبره طعنة تربوية للأهل والأطفال تحديدًا، وتدمير لتربية سليمة يتعب كثيرون بالحرص عليها، ولا أتحدّث عن دول لا رقابة لإعلامها، بل ألوم تمامًا الدول التي سمحت بنقل الحدث العنفي على شاشاتها، وحطّمت مدماكًا تربويًّا سيتعب الأهل التربويون في تبريره لأطفالهم لو شاهدوا ذلك. لست ضدّ عالم الشهرة، ولكن هذه الشهرة يجب أن تكون ذات معايير أخلاقيّة، والأخلاق كي تكون إنسانيّة يجب أن تحتكم إلى اللاعنف فلسفةً واستراتيجيّات. الشهرة أن تدخل المساحة العامّة وفي جعبتك قيم تربيتك الفردية الإنسانيّة، ولا تغرّك المظاهر الشكلية، فتصبح رقمًا ماليًّا يعمي أبصارك عن رؤية الآخرين. عالم الشهرة هو نتاج الهويّة الجماعيّة الزائفة التي تلغي أخلاق الفرد الذي حصد قلوب الناس بموهبته، فهل يلغي قلبك المُنفعل المُتهوّر الأرعن قلوب عامّة الناس البريئة؟.
اقرأ أيضاً: هل يولد الإنسان على فطرة الخير واللاعنف – ناجي سعيد