العنف في تربية الأطفال- ناجي سعيد
التربية اللاعنفية هي من تجعل الخناجر ورودًا
سناك سوري- ناجي سعيد
لم تبالغ زوجة أخي حين منعتني بإيماءة بعينيها أن أمازح ابنتي الطفلة مستخدمًا العنف اللفظي، والضرب الخفيف المُحبّب على يديها، فقد تعلّمت من والدتي أن لا أقترب من وجنتيها حتى لو مداعبة طفولية. نعم فزوجة أخي التي تخصّصت في التربية الحضانية، تعمّقت بالطبع بمواضيع تسرد عن الآثار السلبية للعنف على الأطفال.
ولو تحدثنا عن مرحلة الطفولة عند كائنات حيّة وحتّى غير حيّة، لوجدنا أن أي لمسة في الصغر تُطبع وتترسّخ لتبقى كل العمر، ومن الصعب جدًّا إزالتها. حين ساعدت والدي في الفرن، فقد كنت أشاهد بأن العجين الطريّة حديثة العجن، لو نقشتُ بإصبعي عليها حفرةً ما، كانت تقسو العجينة والحفرة واضحة لتصبح معلمًا لهذه العجينة العجوز. وبعد انتقالي لمعهد الفنون الجميلة، راقبت مادّة الطين (الصلصال أو الفخّار) فكنّا نشكّلها كما هو مطلوب وهي “طريّة”، ونتركها لتنشف وتقسو. والطراوة أشبّهها بالطفولة.
فلم تكُن مقولة “العُنف في الصِغر كالنقش في الحجر” عبثًا، ومصطلح العلم لا يُحصر بالتحصيل العلمي. فالعلم له مصادر متعدّدة. وبرأيي أنّ العلم هو محصّلة ما يتعلّمه الإنسان خلال رحلة حياته، في محيط الأسرة والمدرسة والمجتمع. فهل يضمن أحدٌ أن المسار الذي يتّبعه في تربية أبنائه قد يحترمها الناس في العالم خارج منزله. ليس هذا مضمونًا إلاّ في حال تطابقت تربية الأسرة وتماشت مع السائد في تربية المجتمع.
اقرأ أيضاً: علاقة اللاعنف بالاستعمار _ ناجي سعيد
وما يُزعجني هو تراخي الأهل بحجّة أن المُجتمع هو الذي يُربّي طفلك. بمعنى أنّك لو ربّيته حتمًا سيغيّره المجتمع. نعم هذا ممكن وصحيح، في حال لم تكن مُحترِمًا لقواعد التربية وأسسها. ولكي أوضّح الفكرة، سأروي لكم ما سرده لنا حكواتي فلسطيني في لقاء الحكواتيين العرب في بيروت: .. حاول أحد المزارعين الشباب أن يزرع نوعًا من الأشجار مختلفًا عمّا زُرع في أرضهم من قبل. فأحضر غرسات من شجر الرمّان وزرعها، فماتت بعد أسابيع. كرّر فعلته، فحصلت النتيجة نفسها. بعد تكرار عملته لأكثر من مرّة. ما كان من الجدّ العجوز لهذا الشاب إلاّ بأن نصحه بفعل التالي: أحْضِر غرسات من شجر الحامض، أزرعها أوّلاً. وبعد أن تكبر الشجرة قليلاً، إقطعها وازرع فوقها شجر الرمّان. وفعل ذلك وكان له ما أراد.. إن ما أراد الحكواتي أن يقوله لنا، بأن إحترام “طفولة” الأرض المعتادة على أشجار الحامض هو جواز السفر إلى زراعة وإنتاج الرمّان.
لستُ من دُعاة التمسّك بالماضي والتعصّب له. لكن حديثي تربويٌّ ويُفضي إلى أنّ العنف يتأصّل بالطفل لو نَمَا في بيئة عنيفة. فلا يمكننا نشر اللاعنف من منتصف الطريق. حيث أن اللاعنف ليس استراتيجية تُستخدم عند الحاجة. فاللاعنف نمط حياة وفلسفة عيش، لا تُفرض على الناس، فهي ليست أيديولوجيا وليست معتقد مُنزل لا يُمكن المسّ به.
العنف يبدأ بعد الرقم واحد، وليس هذا يأسًا وإحباطًا، فأنا جدّ متفائل، ولكنّ تفاؤلي لا يدفعني لأن أفكّر وأتصرّف عن غيري من الناس. بل كُنتُ مسؤولاً عن نفسي، وعن عائلتي الصغيرة التي كوّنتُها، زوجة وابنة فقط، وما قراري بعدم إنجاب أخ أو أخت لإبنتي إلاّ إيمانًا منّي باللاعنف، نعم غريبٌ ومضحك للناس أن أفكر هكذا، لكنّ لا يهمّني آراء الناس فأن أتصرّف كالعصفور، حين احترقت الغابة ولاذ سكانها بالفرار. ورغم صغر حجم العصفور مقارنةً مع الحيوانات الباقية. إلا أنه لم يذعن لتعجّب الحيوانات واندهاشها وقال لهم: ” عم بعمل النقطة اللي عليّي”.
وهكذا أنا، لا أحمل عصاً سحرية لتغيير العالم بالوعظ والكتابة، بل ساهمت في تأليف أكثر من دليل تربوي وعملي درّبت ناشطين تربويين لتنفيذه مع الأطفال. “فالنقطة اللي عليّي” ليست صغيرة الحجم بل كبقعة الزيت تطفو على وجه الماء، ونحن كناشطين في المجال التربوي نسعى إلى أن تنتشر بقعة الزيت اللاعنفيّة دون أن تختلط بالماء العنفي، وهذا شبه مستحيل، لكننا سنبقى نحاول باستمرار. وأتمنى أن يكون صمتنا طفولة رعد لتغيير لاعنفي، كما يقول محمود درويش: ..غنائي خناجر ورد وصمتي طفولة رعد..التربية اللاعنفية هي من تجعل الخناجر ورودًا، والصمت طفولة لرعدٍ صوته يدوي بقوّة لكنّه يوضح لنا الليل قليلاً.
اقرأ أيضاً: التربية والمُربي_ ناجي سعيد