قرأت كتابًا أنجزه قسم الدراسات والأبحاث في مؤسسة مهنيّة كنت قد عملت مدرّسًا فيها. وقد كان الكتاب حاجة أساسيّة لجميع العاملين في المجال الاجتماعي والتربوي والإنساني عامّةً. “قاموس المصطلحات” هو العنوان للكتاب.
سناك سوري-ناجي سعيد
وقد أدركت أهمّيته لاحقًا، حيث من الضروري أن كلّ من يخوض العمل الاجتماعي الإنساني تحديدًا أن يتعرّف بعُمْق على المعاني الصحيحة للمصطلحات المُستخدمة في هذا المجال. فلا ينتشر التكرار والببغائية الموجودة عند غالبية العاملين في المجال المذكور. فالمصطلحات هي بمثابة الألف باء لأي مجال، ففي المجال التجاري مثلاً، تجد “الدكّنجي” الذي تقصده لشراء غرض ما، يمتلك من المصطلحات حدًّا يشكّل عنصر جذب للشاري، فيتحوّل من شراء ماركة رخيصة نسبيًّا، إلى شراء الغرض الأغلى، فينتهي به الأمر إلى شجار مسائي مع زوجته، نتيجته: أنت كتير عم بتبعزق!!.
والمصطلحات هنا تأتي في مصافّ التواصل التجاري البعيد كلّ البعد عن التواصل اللاعنفي. حيث ارتكاز البائع هنا يعتمد على القاعدة الميكيافيلليّة: الغاية تُبرّر الوسيلة! وهذا النوع من العنف، يعكس خطرًا على المجتمع برمّته، فالعنف المقصود يخفي وراءه وعيًا ناقصًا بطبيعة البشر الخيّرة، ليقول بأن البقاء للأقوى، فيكون البقاء للأدهى! ويتكاثر الخطر، حين نعلم من أحد علماء الاجتماع الذي قرأت له أيام دراستي الجامعية، حيث يحكي هذا العالم عن ظاهرة التقليد. ومفادها بأن التعلّم عند غالبية الناس يتكوّن جرّاء التقليد، وغالبًا ما يكون أعمى! فيقيس الناس صِحّة سلوك “الدكّنجي”، من خلال رؤيته سعيدًا فرحًا بعمله، وهذا بنظر عامة الناس هو مؤشّر كافٍ لينتهج العالم نهجه، وهذا تشريع شعبي واضح للعنف المعنوي.
ويبرّر الشعب هذا الخطأ بالمقولة الشهيرة: “الشاطر بشطارته”!! ومن ناحية أخرى يعيب مفهوم المصطلحات عيبًا آخر، لكنّه غير مقصود، ويأتي لعدم دراية وقلّة وعي. وقد فسّر هذا علم النفس فيعتبره من “الأخطاء الشائعة”، ومصدرها الوعي الجمعي. فلا أحد يستطيع إقناع والدتي التي تقول عن أي أحد يمتلك عينين خضراوين أن هذا اللون هو أخضر، فقد ورثت عن والدتها مقولة: “عيونو زرق”! وهذه الأخطاء الشائعة قد تُزلق الحاجّة المؤمنة التقيّة التي لا تترك فرض صلاة، وهي جدّة صديقي الشاعر، تُزلقها للوقوع في الكفر حين تصف أي شخصٍ تمسّك وعنّد برأيه: “تيّس ربّك يا عبدي”!!!.
اقرأ أيضاً: هل نستطيع تفريغ العنف بشكل سليم – ناجي سعيد
المصطلحات التي أحكي عنها، لا دخل لها في موضوع الأخطاء الشائعة، ولكنّ هذه الأخطاء تُغذّي الخطأ الوارد لاستخدام المصطلحات. وفي عالم اللاعنف، كلّ مصطلح، هو توضيح لمفهوم لاعنفي. فالإنسان المُتسامح، الذي لا ينصاع لردّة الفعل، ليواجه العنف بالعنف، ينعته المجتمع فورًا بالجبان. دون العودة لفهم خلفيّة تصرّفه التي توضح إيمان الشخص بفلسفة اللاعنف التي لا تنجرّ بردة فعل عاطفيّة تغرق العالم بالعنف، وأحيانًا العنف الدموي.
ولتبسيط الفكرة، فقد اعتمدتُ في التدريب على نظرية تعلّمتها من جمعية عملت معها في برنامج “تدريب العامل الصحّي” لمواجهة الضغط النفسي اليومي، فرسمت مستطيلين متلاصقين، أحدهما يُمثّل الفعل والأخر ردّة الفعل، وفي الشرح وضّحت بأن المشكلة بيولوجيًّا بأن ردّة الفعل ملاصقة للفعل، لذا نرى الناس سريعي الانفعال، والحلّ يكمن في المساحة الصغيرة إلى حدّ الاختفاء، ويجهلها عامّة الناس، تُدعى “الإدراك”. وتفضي هذه المساحة إلى توسيع المساحة بين الفعل وردّة الفعل، فيأتي الإدراك ليفسّر أسباب الفعل، فتصبح ردّة الفعل، عقلانية بمثابة “فعل” يوازي الفعل الأوّل ليكون الردّ إيجابي وفعّال لاعنفيًّا، وهذه العملية سهلة الحصول، في حال قرّر الفرد استثمار وظائف عقله بشكل حرّ مستقلّ، لا يتبع أحد “عالعمياني”! المصطلحات هي ألف باء الوعي الإنساني، والأمثال الشعبيّة التي تلوكها الألسن هي مقبرة المصطلحات.
اقرأ أيضاً: خلي روحك رياضية يا زلمي – ناجي سعيد