الحرائق التي قضت على ما بقي من “جنات عَ مدّ النظر”.. تفتك بأنفاسنا وذكرياتنا
النار أحرقت ذاكرتنا .. ووحش البحيرة مسكين أمام وحوش الأرض
هل رأى أحد ذاكرته تحترق؟ لقد رأيتها تفعل حرفياً لا مجازاً فتلك السفوح الجبلية التي تئنّ تحت النيران لم تكن مجرد مساحات خضراء فحسب بل حضناً واسعاً لذكريات أجيالٍ من أبنائها.
سناك سوري- ميس الريم شحرور
الحرائق التي أتت على مساحات واسعة بريف “اللاذقية” الشمالي هذا الصيف. لم تحصِ في خسائرها ذكرياتنا وصورها المطبوعة في خيالات طفولتنا وأحلام صبانا.
الدهشة التي تعلو وجهك وأنت تستمع إلى مطلع أغنية “جنّات عَ مدّ النظر.. ما بينشبع منها نظر” وتشاهد البحيرات السبع. ستستحيل قهراً أمام هول المشهد الذي يعيدنا إلى ذكريات الوجع نفسه عام 2020. ولو أن العبرات التي تخنقنا خرجت من حبسها لأطفأت لهيب النار من مشقيتا إلى ربيعة.
الحرائق التي أتت سابقاً على جبال “اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص” عام 2020 لم تبقِ ولم تذر سوى بضع غابات صارت اليوم رماداً. سبقتها ذكرياتي التي دفنت مع الأشجار المحترقة على قمة “جبل الشيخ متلج” المطل على شاطئ وادي قنديل.
كلما امتدت ألسنة اللهب على مساحة جديدة رأيت طفولتي تنزف من خاصرة الذاكرة. الذاكرة التي أصيبت بجراح الحرب. تحتضر اليوم مع حرائق غابات “مشقيتا” التي توصف بأنها “فتنة الناظرين والزائرين من كل أنحاء العالم”.
حين صار الأخضر “أسود”
أذكر جيّداً رحلات المدرسة الابتدائية التي كنّا نتذمر من وجهتها التي تتكرر كلّ عام. ومن شجر الصنوبر حين كانت أوراقه تدبغ على الجلد مادة صمغية وتجتاح الحكة الطلاب الأشقياء. الذين يختبئون وراء الجذوع الضخمة لأشجار السنديان والصنوبر والأرز.
فتتحول الرحلة إلى بكاء في مشهد طفولي يعيدني إلى تلك اللحظة. فأكاد أشمّ رائحة الصنوبر وتلفحني نسمات الفرنلق وأسمع أصوات الأولاد يتهافتون إلى مشرفي الرحلة والأساتذة يرجونهم أن يأخذوهم في رحلة بالقارب الذي يغريهم منظره وهو يشق المدى عبر “البحيرات السبع” في مشقيتا.
إلّا أن رحلة البحيرة كانت حكراً على الكبار وطلاب الجامعات الذين يحقّ لهم ما لا يحقّ لنا. لطالما انتظرنا أن نكبر علّنا نبني ذكريات أكثر مع المكان حين نصبح مستقلين في قراراتنا كما حال الكبار. لكننا لم نتخيل يوماً أن تلبس الأماكن ثوب الحداد ويستحيل الأخضر الذي تغنّينا به في أناشيد الطفولة أسوداً.
أقف أمام مشهد النيران وأسأل نفسي كيف سيغنّي الأطفال في مدارسهم “بلادنا خميلة ضاحكة وجدول”. وهل يصدّقنا “وديع الصافي” إن أخبرناه أن بلادنا الخضراء لم تعد كذلك. وأن يد القدرة لم تحرسها من نيران أتت على ما كان يوماً مقصد السياح وما بقي من “جنات عَ مدّ النظر”.
“وحش البحيرة” المسكين
لعلّ معظم الذين ولدوا في الساحل السوري سمعوا من الكبار عن أسطورة “وحش البحيرة” الذي يختبئ في السدود والبحيرات حيث يمنع على الأطفال الاقتراب.
لكن ذلك الوحش التي كانت الجدّات يقلن أنه يسكن في بحيرات “مشقيتا” السبع، وبحيرة “سد بلوران”. وأنه تنين ينفث النيران من فمه الضخم، كان أكثر طيبة من وحوشٍ سواه. فلم يكن له ليحرق تلك الأرض وأن يكسو ذاك الجمال بحلّة الرماد. بل كان مجرد وحشٍ تحمي رمزية وجوده الأطفالَ من الاقتراب من الخطر.
نحن جيل الحرب الذين تعرّفنا إلى الوحوش الحقيقية ورأيناهم بأعيننا وشهدنا أفعالهم. لم يعد يقنعنا وجود “وحش البحيرة” المسكين. بعد أن رأينا ذاكرتنا تحترق وطفولتنا تتلاشى ويتحوّل مشهد الرماد الأخير واقعاً يومياً لا يغيب عن أعيننا ليذكّرنا أن بلادنا لم تعد “خضراء” كما عهدناها فالنار أكلت كل شيء.