التغريد بعيداً عن منطق التربية – ناجي سعيد
ناجي سعيد … اعرف نفسك
سناك سوري – ناجي سعيد
عندما أفكّر بالمنطق، يخطر ببالي سؤال المُدرِّسة “سهير البابلي” للتلميذ الكسول “عادل إمام” : تعرف إيه عن المنطق؟ في المسرحية الشهيرة “مدرسة المشاغبين” وعلى الرغم من أن نوع المسرحية هو “كوميدي” بامتياز، إلاّ أن هذا العمل المسرحي يعطي صورة سيئة تربويًا عن المدرسة، فمدرسة المشاغبين تُظهر لنا بأن الطلاب المُهملين هم في قمّة “الهضامة”. وقولي هذا لا يتناقض مع موقفي الواضح جدًّا ضدّ “مفهوم” المدرسة. لأنها (أي المدرسة) تُعطي صورة مُسبقة توحي بمشقّة وصعوبة التعليم والتعامل مع المُدرّسين/ات. وهذا ما يُحدّ من إمكانيات دماغ الطفل، حيث يُعتبر “إصدار الأحكام” من المهارات الأساسية في الدماغ، والتي يرتكز عليها المسار التعلّمي عند الطفل. وهذا يؤثّر على نشاط المهارات الأخرى في الدماغ، ويُسبّب له عجز في استخدام مهارته ليتفاعل مع عمليّة التعلّم.
اقرأ أيضا: فنان سوري يزيل الكآبة عن جدران المدارس بالرسم
وهذا يدلّ على “صندقة” (من صندوق) المدرسة للدماغ. ويساعدني في تفسير ما أقول عن تبعات تأثير المدرسة، كظهور مذهب فلسفي في القرون الوسطى يُدعى “السكولائية”، والاسم مأخوذ من الكلمة الأجنية school ، وقد ارتكز هذا المذهب الفلسفي على عامودي المجتمع والدين. فعلى الرغم من أن الفلسفة المدرسيّة (السكولائية) أطلقت مهارات تفكير ضرورية للتعلّم، إلاّ أنها ليست مجرد لاهوت أو مذهب فلسفي بقدر ما أنها منهج للتعلّم، فهي تركز بقوة على التفكير الجدلي من أجل توسيع المعرفة بالاستدلال، وحل التناقضات، ويُعرف الفكر المدرسي أيضًا بتحليله الدقيق للمفاهيم، وكشفه عن الفروق والاختلافات بمهارة علمية.
ما الذي تودّ قوله بعد هذه المُقدّمة؟ ليس غريبًا عندي، أن أطابق عمليّات دماغيّة، وأناقش حول كيفيّة ظهور هذه العمليات في عجلة المسار التعلّمي عمومًا، لذا حين بدأت الحديث عن المسرحية المشهورة أعلاه، فقد تطرّقت لذكر مفهوم “الهضامة” التي تُسيء إلى التربية، وكما هناك كوميديا سوداء، فهناك “هضامة” مُدمّرة لعدّة مفاهيم تربوية وتُبعد الناس عن المنطق التربوي.
ولكي لا يأخذ الحديث منحى النقد المسرحي، أعود لتشريح العملية دماغيًّا، وسأذهب إلى أمثلة من الواقع اليومي في تربية الأهل لأطفالهم، بدءًا من “الدلع” المقلوب، حيثُ لمناداة “البنت” يقولون: يسلملي الحلو المهضوم، ولمخاطبة “الصبي” يقولون: يا زعرة انتي يا زعرة.
والمشكلة غير خطيرة حيثُ تبقى في المجال السلوكي اللفظي، كما يناديني صديقي حسن مستخدمًا ضمير المخاطبة المؤنّث، وحين يخاطب سهى يستخدم الضمير المُذكّر، وكثيرًا ما أجيبه ظنًّا أنه يخاطبني حين يخاطبها. وعلى الرغم من عدم الشعور بخطورة الموقف خلال المثل المذكور، لأن الشخص الناضج لا يأبه بما تعلّمه خلال الطفولة، فتركيزه على إرضاء الآخرين يُدخله في صراع بين “الآن وتربية الماضي” الذي رسمها له أهله.
اقرأ أيضاً: التربية الجنسية .. لماذا لا نخبر صغارنا عن أجسادهم؟ – لينا ديوب
أنا متأكّد جدًّا أن صديقي حسن وزوجته يتحمّلون مسؤولية كبيرة تربوية مع ابنتيهما، حيث يعتمدان على مقاربة الدماغ المُتفتّح في نقاش كلّ المواضيع العائلية، وهذا ما يجعل طفلتيهما شريكتان في التربية، ولا حاجة للفلاسفة ولمعرفة الفلسفة المدرسية (السكولائية)، فالمسألة بسيطة، وهذا يرتكز على إعطاء كل عملية دماغية حقّها، ومن ثمّ فصلها عن موضوعات أخرى وهذا تحديدًا منطق تربوي، فالطفل يعيش فترة التعلّم المدرسي، حائرًا بين بيئتين مختلفتين تماماً: الأهل والمدرسة، حيث أنّ التوازن بين العقل والقلب مفقود في البيئتين، فغلبة القلب بالتأكيد عند الأهل وغلبة العقل (هكذا يظنّون) في المدرسة.
العقلانية التي يستخدمها صديقيّ في تربية ابنتيهما، لا تعني أنهما حذفا المشاعر كليًّا من قاموس العلاقة معهما. لا بل أنهما فصلا المشاعر عن الأمور الأخرى، فلا يُخطئ صديقي ويقول لابنته جوليا مثلا حين تتصرّف تصرّفًا خاطئًا: بطّلت حبّك.. أو بدّيش حبّك. هذا شائع عند الناس، فيكفي هنا لنحترم دماغ الطفل أن نقول : أنا زعلت من تصرّفك الخاطئ.. وقد جمعت العديد من الأمثلة خلال ملاحظتي الدقيقة للناس، وهذه الأمثلة أستخدمها في التدريب على مواضيع تربوية.
والمثل الأكثر شهرة هو عن زوجة عمّي الحاجة أمّ عبده، حين تريد مناداة ابنها الصغير محمود: يا محمود تعا يا تقبرني.. يا تقبرني تعااا. وحين لا يتجاوب معها: ولا يا محمووود تعا ريتني أقبرك، وهذا تمامًا ما قصدته في الحيرة الدماغية للطفل. هل أمّه تُحبّه؟ أم تكرهه؟ على الرغم من أن الغضب مشاعر بسيطة، إلاّ أن الأميّة العاطفية لدى الأهل تنتقل بشكل طبيعي إلى الطفل، فهم من يضربوه/ها على وجنته/ها الصغيرة الناعمة ليعبّروا له/ها عن حُبّهم له/ها. ولتبرير فعلتهم اللاتربوية، يستشهدوا بالمثل الشعبي ” الغبي”: من ضربك حبّك. كلّا، فالحقيقة أنّ من ضربك تسبّب لك بالألم، والأفظع حين يكون هذا الألم غير مرئي: دماغي، فالجرح الجسدي، يُداوى وبعد وقت قصير يتعافي، لكن جرح الدماغ المعنوي هو مادّي غير مرئي.
نعم فالتغيير الدماغي نعتاده ونعتقد أنّه طبيعة موروثة، ولا يُمكن تغييره وتعديله، والإستسلام لهذا العجز تختصره مقولة عاجزة وخانعة: من شبّ على شيء شاب عليه، وفي الخلاصة إن المنطق المقصود هنا، أن لا نخلط المسارب في مكوناتنا الإنسانية بعضها ببعض، فالمشاعر لها مسار يجب أنّ لا يؤثّر سلبًا على المسارات الأخرى كالمواقف والأفكار. وعند قول الناس بأن الله عرفوه بالعقل، غفلوا تمامًا أنّهم يجب أن يعرفوا أنفسهم بالعقل والقلب معًا.
اقرأ أيضاً: التربية والمُربي – ناجي سعيد