الاقتصاد السوري 2025 .. تحرّر من العقوبات واشتراكية البعث بانتظار اختبار الحوكمة
الشفافية تغيب عن معظم حملات التبرع .. والشرع يؤكد قدرة سوريا على إطعام 250 مليون شخص

حمل عام 2025 تغيّراً نوعياً في شكل الاقتصاد السوري كنتيجة حتمية للتحوّل السياسي الذي رافق سقوط نظام بشار الأسد في الشهر الأخير من العام الماضي.
سناك سوري _ محمد العمر
أولى بوادر التحولات كان توجّه السلطة السورية الجديدة إلى نموذج “اقتصاد السوق المفتوح” والتخلّي عن شعارات “اشتراكية البعث”، التي تحوّلت خلال العقود الماضية إلى بوابة للفساد ضمناً تحت عنوان “الدعم” وتدخل الدولة في التسعير وحركة الأسواق، فكانت القرارات الأولى للسلطة الجديدة تحمل رفع الدعم عن كافة السلع بما فيها الخبز والمحروقات بشكل أساسي، وإلغاء البطاقة الذكية، وتحرير السوق من تدخل الدولة واعتماد مبدأ العرض والطلب في عملية التسعير، إضافة إلى القرار الأبرز وهو السماح بتداول الدولار والعملات الأجنبية بعدما كانت تهمة تودي بصاحبها إلى السجن لسنوات في عهد النظام السابق.
إعادة الإعمار التي تصل تقديرات تكاليفها إلى أكثر من 600 مليار دولار، فيما لم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2024 أكثر من 21.4 مليار دولار.
رفع العقوبات
منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان الاقتصاد السوري يعاني تحت وطأة العقوبات الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً، والتي فرضت على البلاد بسبب سياسات النظام السابق، وصولاً إلى سنوات الثورة السورية حيث اشتدت العقوبات ووصلت ذروتها عام 2019 مع قانون قيصر الذي أنهك الاقتصاد السوري خلال سنوات طويلة، بموازاة عمليات النهب والفساد وفرض الإتاوات التي كان يقودها النظام ضد السوريين.
ولعلّ أبرز حدث فارق لـ الاقتصاد السوري 2025، يتمثّل في رفع العقوبات الغربية من دول مختلفة وفي مقدمتها “الولايات المتحدة” التي قرر رئيسها “دونالد ترامب” رفع معظم حزم العقوبات، فيما بقي خطوة واحدة لإلغاء عقوبات “قيصر” بشكل نهائي بعد تعليقها لمدة 6 أشهر، وبذلك تطوي سوريا صفحة طالت لعقود من العقوبات والعزلة عن الاقتصاد الدولي.
الحكومة اختارت إعادة البناء عبر الاستثمار بدلاً من الاعتماد على المساعدات الخارجية، لأن ثقافة الاعتماد على المساعدات تؤدي إلى الكسل الرئيس الانتقالي أحمد الشرع
وقد سمح رفع العقوبات بعودة تدريجية لـ”سوريا” إلى السوق الدولية، فلم يعد هناك خطر يهدّد الشركات إن صدّرت بضائعها إلى “سوريا”، ولم تعد المصارف مهدّدة إن نفّذت تحويلات إلى الداخل السوري، وقد عادت “سوريا” رسمياً إلى نظام “سويفت” للتحويلات المصرفية، ما سهّل على كثير من السوريين عمليات التحويل من الخارج.
سوريا ترفض الاعتماد على المساعدات والديون
الانفتاح على العالم، أعاد سوريا إلى الاجتماعات واللقاءات مع ممثلي “البنك الدولي” و”صندوق النقد”، لكن ذلك لم يدفع “دمشق” إلى الاقتراض كوسيلة رئيسية لتمويل إعادة الإعمار التي تصل تقديرات تكاليفها إلى أكثر من 600 مليار دولار، فيما لم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2024 أكثر من 21.4 مليار دولار.
صندوق النقد الدولي جاهز لدعم سوريا .. أول تواصل مع دمشق منذ 2009
وقال الرئيس السوري الانتقالي “أحمد الشرع” أن الحكومة اختارت إعادة البناء عبر الاستثمار بدلاً من الاعتماد على المساعدات الخارجية، لأن ثقافة الاعتماد على المساعدات تؤدي إلى الكسل وفق حديثه، مبيناً أن الاستثمارات الداخلة إلى سوريا في الأشهر الستة الأولى من 2025 تجاوزت 28 مليار دولار، وقال أن قانون الاستثمار الجديد الذي طرحته وزارة المالية جعلت القانون يصب في مصلحة المستثمرين المحليين والأجانب، إذ يتيح لهم إخراج الأرباح والجزء الأكبر من رأس المال إلى الخارج.
موقع حملة “فداء لحماة” فهو الأكثر غرابة بين حملات التبرع، إذ يظهر أن مجموع التبرعات صفر، ما يرجّح أن الموقع لم يجرِ تحديثه بعد إطلاق الحملة وجمع التبرعات التي قالت وكالة سانا الرسمية أنها تخطت في مجموعها 210 مليون دولار.
ولفت “الشرع” إلى أن سوريا بلد زراعي وسياحي واقتصاد متنوع، وتستطيع إطعام ما يقارب 250 إلى 300 مليون نسمة، وأكّد كذلك وجود فائض في إنتاج النفط والغاز ومخزونات كبيرة من الغاز في البحر والبادية.

صندوق التنمية وحملات التبرع
في 4 أيلول 2025، أعلن الرئيس السوري الانتقالي “أحمد الشرع” إطلاق “صندوق التنمية السوري” ككيان يتمتع بالاستقلال المالي والإداري ويرتبط مباشرةً برئاسة الجمهورية، ويعنى بمشروع إعادة بناء سوريا.
وعلى الرغم من الزخم الذي رافق إطلاق الصندوق وسخاء التبرعات في بدايته، إلا أن الأرقام التي يظهرها موقعه الرسمي تظهر فارقاً بين التبرعات الفعلية و”تعهدات” بالتبرع لم يتم الوفاء بها بعد، حيث بلغ حجم التبرعات التي تلقّاها الصندوق 27.687 مليون دولار، بينما يبلغ حجم التعهدات التي ينتظر أن تصله 57.228 مليون دولار.
في حين، انطلقت خلال العام الماضي حملات للتبرع في مختلف المحافظات السورية بهدف إسهام المجتمعات المحلية في عمليات إعادة الإعمار وإصلاح البنى التحتية على مستوى المناطق.

ففي حملة “أربعاء حمص” بلغ إجمالي التبرعات أكثر من 13 مليون دولار بحسب “فريق ملهم التطوعي”، أما “حملة دير العز” فيظهر موقعها الرسمي مشروعاتها القادمة، وتعريفاً بالحملة يقول أن من قيمها الشفافية والحوكمة، لكن الموقع لا يظهر حجم التبرعات التي وصلت للحملة وتحديثاتها، ونسبة التنفيذ تبعاً لحجم التبرعات، علماً أن الحملة واجهت انتقادات بهذا الشأن حيث أعلن الناطق باسم الحملة “حسين العبد الله” أن التبرعات النهائية وصلت إلى نحو 31 مليون دولار، مبيناً أنه تم استلام 3.423 مليون دولار بانتظار بقية التعهدات، فيما قال أحد المتبرعين أنه حوّل مبالغ لحسابات الحملة لكن “العبد الله” قال أنهم لم يتسلّموا المبلغ بعد ما أثار تساؤلات حول شفافية الحملة.
بينهم خلف الحبتور وعشيرة المحاميد .. تعهدات صندوق التنمية بانتظار التحصيل
الأمر ذاته ينطبق على حملة “أبشري حوران” الذي يكشف موقعها الرسمي حجم التعهدات التي وصلت لأكثر من 38 مليون دولار، دون أن يحدّد حجم التبرعات التي تم تقاضيها بالفعل، فيما لا يظهر الموقع الرسمي لحملة “ريفنا بيستاهل” التي أقيمت في “ريف دمشق” عن حجم التبرعات أو التعهدات، فيما قالت “الإخبارية السورية” الرسمية أنها رصدت تبرعات وصلت قيمتها لأكثر من 76 مليون دولار.
بينما لا يوجد موقع رسمي لحملة “السويداء منا وفينا” التي تأثرت بطبيعة الحال بالظروف السياسية وما مرّت به المحافظة من أحداث عنف وانتهاكات طائفية، لكن وكالة سانا الرسمية قالت أن الحملة التي أقيمت بدعم حكومي جمعت أكثر من 14.6 مليون دولار.
كذلك الحال في الموقع الرسمي لحملة “الوفاء لإدلب” الذي لا يظهر أرقاماً واضحة لحجم التبرعات التي تلقتها الحملة وحجم التعهدات المنتظرة، فيما تقول قناة “الإخبارية السورية” الرسمية أن حجم التبرعات بلغ 208 مليون دولار دون توضيح الفارق بين “التبرعات” و”التعهدات بالتبرع”.
أما موقع حملة “فداء لحماة” فهو الأكثر غرابة بين حملات التبرع، إذ يظهر أن مجموع التبرعات صفر، ما يرجّح أن الموقع لم يجرِ تحديثه بعد إطلاق الحملة وجمع التبرعات التي قالت وكالة سانا الرسمية أنها تخطت في مجموعها 210 مليون دولار.
أحدث حملات التبرع وأكبرها كانت في حملة “حلب ست الكل” والتي قال القائمون عليها أن إجمالي التبرعات والتعهدات فيها تجاوزت 426 مليون دولار، لكن الموقع الرسمي للحملة يظهر أن أقل من 2 مليون دولار تم التبرع بها، مقابل 425 مليون دولار من التعهدات التي تحتاج وقتاً للوفاء بها، ويشير الموقع إلى أن الاحتياج العاجل يقدّر بنحو 3 مليارات دولار لتأمين الحد الأدنى من متطلبات التعافي.

وباحتساب مجموع التعهدات والتبرعات الفعلية كاملةً في “صندوق التنمية” وكافة حملات التبرع في المحافظة فإن مجموع المبالغ يصل إلى مليار و101 مليون دولار، بينما تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن إعادة إعمار البلاد تصل لأكثر من 216 مليار دولار، ما يعني أن كامل هذه التبرعات تساهم بنسبة 0.5% تقريباً في إعادة الإعمار.
تحديات وآمال
منح سقوط نظام الأسد أملاً للسوريين بالانتهاء من عهد الاقتصاد الفاسد القائم على المحسوبيات والرشاوى وحكم العائلة، والذي زاد سوءاً خلال السنوات الماضية حين تحوّل إلى اقتصاد حرب يتسيّده أمراء الحرب وتديره عصابات نهب فعلت كل ما من شأنه تدمير الاقتصاد الوطني النظامي.
وتخلق هذه المعاناة التي عاشها السوريون تحدياً أساسياً أمام السلطة الحالية، يتمثل في تعزيز فعلي لقيم الشفافية والحوكمة وإنهاء المحسوبيات وصلات القربى في تعهيد المشاريع الاقتصادية، في وقتٍ يعدّ فيه توفير الأمان والاستقرار أكبر تحدٍّ أمام الحكومة لجذب المستثمرين فعلياً لا أن تكون الاتفاقات مجرد “مذكرات تفاهم” ووعود مستقبلية بالاستثمار.
من جانب آخر، فإن الليرة السورية فقدت الكثير من قيمتها خلال السنوات الماضية حتى بلغ سعر الصرف أكثر من 15 ألف ليرة للدولار الواحد عند سقوط النظام، بينما يبلغ اليوم نحو 12 ألف ليرة بتحسّن طفيف، يضاف إليه زيادة الرواتب التي ساهمت بتحسّن نسبي في القدرة الشرائية للموظفين، ورغم التحدّي الأكبر المتمثل بإعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية وقطاعات مثل الكهرباء لخلق بيئة مناسبة فعلياً للاستثمارات، فإن الأمل بأن نهاية هيمنة النظام على مفاصل الاقتصاد ستكون بوابة للانفتاح وفتح أبواب الفرص للعمل والاستثمار وإعادة إحياء السوق السورية بعد طول ركود.


