ابنة دوما.. السيدة التي أرادت لصوتها أن يعلو فوق صوت القذيفة
كانت الوحيدة التي لم تحرك القذائف فيها ساكناً بينما تفترش بسطة تبيع بها “البقدونس” في “دمشق”
سناك سوريا- داليا عبد الكريم
كانت الوحيدة التي لم تحرك القذائف فيها ساكناً بينما تفترش بسطة تبيع بها “البقدونس” في “دمشق”، كلنا ركضنا جيئة وذهاباً من الذعر، إلا هي مسحت دمعتها ونادت على بضاعتها بأعلى صوتها، لدرجة خيّل إليَّ أنها كانت تريد لصوتها أن يعلو فوق صوت القذيفة فيطمئننا لاستمرار الحياة وطبيعيتها.
لم أشأ أن أغادر قبل أن أتعرف عليها، اقتربت ألقيت التحية، وبدأنا دردشة أخبرتني خلالها أنها ابنة مدينة “دوما” التي غادرتها هرباً بأبنائها من جحيم حرب لا تريد أن تنتهي، السيدة “أم بكر” حدثتني عن أيام جميلة جداً مضت، كانت تزرع فيها بأرضها الكثير من الخضراوات والفواكه حيث كانت “دوما” شهيرة بخصوبة أرضها وتوافر المياه للسقاية والأهم الهدوء الذي يميزها عن العاصمة “دمشق”، على عكس اليوم حيث أطاحت الحرب بالمزروعات وبالهدوء أيضاً.
ومع إلحاحي على معرفة المزيد عن ذكرياتها في تلك المدينة التي لم تعد تعني في ذاكرتنا أكثر من مدينة الحرب، قالت “أم الخمسة أبناء” بينما تعلو دمعة نظيفة أعلى وجهها: «آه يا ابنتي وألف آه لا تكفي، لقد كانت طفولتي بين المزروعات والخضار والهدوء والجمال، لم أتعب يوماً من كل المهام الزراعية التي أوكلني بها أبي في بداية حياتي، وأجبرتني الظروف على العودة إليها بعد وفاة زوجي قبل 3 سنوات من بدء الحرب، لأربي أولادي وأحرص على تلقيهم التعليم الذي لم تتح لي الظروف أن أتلقاه أنا أيضاً».
يقاطعنا أحد المارة الذي قرر أن يشتري شيئاً من بضاعتها البسيطة، لربما كان يريد مساعدتها فقط، فالقذائف والحرب لم ينجحا بتجريد سكان دمشق من حسهم الإنساني ونخوتهم الشهيرة، يأخذ مايريد يحاسب ويمضي، وتعود بكامل انتباهها لي، لتضيف: «لقد كنت مصرة على تعليم أبنائي لأثبت أن بيئتنا الزراعية الجميلة تنتج العلم كما تنتج الخضراوات والفواكه، لكن الحرب كانت أقرب من أن أحقق حلمي في مزارع “دوما” فقررت تحقيقه في “دمشق” لأضمن أيضاً عدم تحول أولادي لمقاتلين أو ضحايا حرب وجوع».
اقرأ أيضاً: في يوم المرأة العالمي: أم لأربع قاصرات تطرق أبواب السماء
لا يخيل للكثيرين من جيل هذا اليوم الذي كبر على الحرب أن الدمشقيين كانوا يقصدون “دوما” والغوطة طمعاً بالهدوء ونظافة الجو والمزروعات، وبأن سيداتها كن نساء مكافحات يعملن بأرضهن دون كلل أو ملل كالسيدة “أم بكر” التي قالت: «كنت أملك أرضاً زراعية كبيرة،وأتقن التعامل معها، سقايتها، تسميدها، اختيار زراعاتها الموسمية المناسبة، بحكم سنوات الخبرة الطويلة»، وتضيف: «أجمل اللحظات كانت وقت القطاف، كان أولادي يعملون معي، نقطف الخضراوات ونوضبها بطريقة أنيقة فالخضروات الموضبة بطريقة صحيحة تلفت نظر التجار أكثر من تلك غير المرتبة، وبعد ذلك أنقلها بواسطة أحد السيارات إلى سوق الهال أبيعها، أقبض ثمنها وأحضر حاجيات أسرتي ولوازم المنزل».
تتابع السيدة الأربعينية: «كنا مستورين في أرضنا، وفي كثير من الأحيان كان التجار يأتون إليّ في الأرض يشترون الخضروات الموضبة منها، فلم أكن حتى مضطرةً على الذهاب إلى سوق الهال، لكنني اليوم لا أعرف ماذا حل بأرضي ولا منزلي، قبل نزوحي كنت قد حسنت شبكة الري أتمنى ألا تكون دمرتها الحرب».
اليوم باتت تضطر على بيع منتجات لا تنتجها على بسطة صغيرة، فظروف الحياة الصعبة التي يواجها أي نازح تجبره على القيام بأي عمل يضمن له جزءاً من حياة كريمة لا تخلو من الصعاب، هكذا كانت تحدثني حين سقطت قذيفة تانية، وعاد المشهد بنا إلى بدايته من ذعر وتدافع، ليعلو صوتها مجدداً، هذه المرة نادت صاحبة بسطة “البقدونس”: «تفاح دوماني، باتنجان دوماني، خيار دوماني، بندورة دومانية، خضرة نضيفة فواكه طيبة…الخ».
اقرأ أيضاً: “دوما” مدينة الكرمة ودرة الغوطة الشرقية … تعرف على عاصمة “الريف الدمشقي”