الرئيسيةرأي وتحليل

أوهام الخلود والإنجازات العظيمة – أيهم محمود

ليست كل الأهرامات حجارة.. بعضها كلام مدونٌ على ورق!

سناك سوري-أيهم محمود

اصطف عشرات آلاف البشر على جانبي الشارع العريض، يحيّون الرفات الرمزية لعددٍ غير محدد من الأجساد التي قضت من التعب والجوع والعطش والقهر وهم يبنون صروح أوهام الملوك وأوهام الكهنة على مر التاريخ، حيّوا رفات عمال معابد زيوس ورفات عمال بناء الأهرامات – الشاهد الحجري الضخم على عدم اكتمال نضج البشر وعلى عدم تعلمهم من دروس التاريخ-، حيّوا أرواح مئات آلاف العمال الذين قضوا من التعب والجوع والعطش والمعاملة القاسية وهم يحفرون قناة السويس.

حيوا رموز مليارات الأجساد التي عاشت في المستعمرات القديمة والحديثة، مليارات المجهولين الذين بنوا بعرقهم المسروق من بلادهم عواصم مدن المستعمرين، بأنوارها التي جذبت المزيد من الضحايا إليها، والمزيد من النهب والقهر والجوع لمناطق شاسعة من العالم.

حيّا الحضور الأسماء الرمزية للملايين الذين تحدثوا بصدق عن احتضار بيئة الأرض، وعن انقراض الكثير من الأنواع الحية، نتيجة أوهام خلود الملوك وخلود القادة وخلود الشيوخ، ومع ذلك لم يصدقهم في زمنهم أحد، رحّب البشر الجدد برمز الإنسان الفاني الذي يعمل بجد لبقائه وبقاء غيره من البشر والنباتات والحيوانات على أرضٍ عانت كثيراً من أوهام وجنون أسلافه، لقد اصطف في أزمنةٍ غابرة بشرٌ سابقون لتحية الملوك الفراعنة الأحياء، ثم اصطفوا بعد بضع قرون لرؤية موكب بقايا أجسادهم مفتخرين بإنجازاتهم، وما الأهرام إلا مثالٌ عن آلافٍ منها ليست كلها من الحجر.

سأل طفلٌ أباه:
هل كان البشر الأوائل يقدٌسون ملوكهم وقادتهم حقاً؟.

اقرأ أيضاً: هل المشكلة في البضائع الصينية حقاً؟ – أيهم محمود

نعم يا بني، لقد كادت الأرض تفنى، ومات المليارات من الجوع والعطش والأوبئة والحروب، ولم يبق على سطحها سوى بضع ملايين تعلموا درساً قاسياً وغالياً، لذلك نحتفل الآن بعيد البشر لكي لا نعود مرةً أخرى إلى أوهام الخلود، وأوهام الانجازات العظيمة، حضارتنا الحالية هي حضارة الإنسان الفاني وحضارة البشر الذين يعملون معاً من أجل بقائهم.

لم نعد نبني الأهرامات يا بني، الأهرامات صروح القهر وصروح توليد المزيد من طبقات الحالمين بالخلود، بقيت الحجارة، وبقيت الأجساد المتعفنة، ومع ذلك لم يلاحظ البشر حولهم حتى بعد مرور آلاف السنوات أن تحنيط هؤلاء كان من أجل وهم، وأن هدر جهد عشرات بل مئات آلاف البشر في بناء الحجارة كان فعلاً إجرامياً بحق البناة وبحق مواطني تلك الحقبة، لو تم استثمار هذه الموارد والطاقة الهائلة اللازمة لبناء القبور الضخمة، في بناء المدن والعائلات والأفراد وصيانة بيئة الحياة، حولهم لما فنيت حضارتهم ولما فنيت حضارات تلك الحقب الغابرة.

حتى المدن والدول التي كانت موجودة في تلك الحقبة المظلمة، بعد بناء الأهرامات بثلاثة آلاف عام بنت أهرامها الخاصة بطرق مبتكرة، ليس كل الأهرامات حجارة يا بني، بعض الأهرامات كلامٌ مدونٌ على ورق، وبعضها يظهر على شكل مدن حديثة وأنوار وضجيج، للأهرامات أشكالٌ كثيرة لكنها تتقاطع كلها حول فكرة واحدة: خلود من يريدها شاهداً على عظمته فرداً كان أو جماعات.

مات الفراعنة ولم يستخدموا أجسادهم البالية للعبور إلى عوالم الوهم التي تخيلوا وجودها، أهدروا حياتهم وحياة ملايين البشر من معاصريهم في خدمة الأوهام، فهل اتعظ من حكايتهم هذه أولئك الذين سخروا من أوهامهم لاحقاً واعتبروها مجرد أكاذيب؟، الجواب لا، لقد قتلوا في أنفسهم وهماً ليستبدلوه بأوهام أخرى، وأهرامات أخرى لذلك نأتي إلى هنا كل عام لنؤكد اتفاقنا على عدم تكرار الأوهام التي كادت أن تصل بالبشر والطبيعة إلى حدود الانقراض، نحترم في هذا الموكب الذي تشاهده معي رموز البشر العاديين ورموز الحيوانات والنباتات التي تحيا معنا، لقد احتاجت بيئة الأرض آلاف الأعوام بعد تلك الحقبة المظلمة -حقبة الأوهام الكبرى- لتعود إلى طبيعتها وتستطيع مرةً أخرى احتضان الحياة فيها.

اقرأ أيضاً: هنيئاً لنوال السعداوي الشتائم التي تلقتها – أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى