“أنطوني كوين العرب” سيرة الإبداع والغضب
“خالد تاجا” الراحل من الحرية إلى التغريبة والباقي في ذاكرة السوريين
سناك سوري _ محمد العمر
على شاهدة أحد القبور في مقبرة “الزينبية” في حي “ركن الدين” بدمشق عبارة تقول «مسيرتي حلم من الجنون كومضة، كشهاب، زرعت النور في قلب مَن رآها لحظة ثم مضت»، كان صاحب القبر قد كتب تلك العبارة قبل 4 سنوات من الرحيل الأخير وذيّله بعنوان «منزل الفنان محمد خالد بن عمر تاجا».
عاد “خالد تاجا” عام 2012 للمرة الأخيرة إلى “ركن الدين”، ذلك الحي الدمشقي الذي شهد صرخته الأولى عام 1939، ومن ذلك الحي انطلق حاملاً الشغف بالتمثيل نحو “مسرح الحرية” الفرقة المسرحية التي جمعت “تاجا” وهو في الثامنة عشر من عمره مع مسرحيين كبار مثل “عبد اللطيف فتحي” و “صبري عياد” و “حكمت محسن”.
وحين قررت المؤسسة العامة للسينما في “سوريا” إطلاق أول فيلم من إنتاجها بعنوان “سائق الشاحنة” كان “تاجا” مشاركاً فيه تحت قيادة المخرج اليوغسلافي “بوشكو فوتونوفيتش” عام 1966.
إلا أن تلك الموهبة الشابة سرعان ما توقفت عن الإنتاج إثر المرض الذي أصيب به “تاجا”، حيث يصف الصحفي “زياد عبد الله” من جريدة الأخبار اللبنانية أنه حين قابل “تاجا” رآه يدخن كقطار بينما تتوالى انفعالاته على وقعِ الحديث حول الوضع العربي، بيد أنّ ذلك الولع بالتدخين أودى بالرجل إلى الإصابة بسرطان الرئة أواخر الستينات، الأمر الذي أوقفه عن التمثيل نحو 12 عاماً لكنه في المقابل هزم السرطان خلال تلك السنوات وعاد إلى شغفه الأول بعد استئصال إحدى رئتيه.
وعلى الرغم من الأثر الذي خلّفه المرض في جسده إلا أنّه عاد بقوة إلى الميدان الفني بانتظار الدور الذي يلبّي طموحاته ويرضي موهبته لكنه اصطدم حينها بواقع البقاء دون عمل حيث يروي في أحد لقاءاته الصحفية مع موقع “الفن” أن المنتجين والمخرجين كان يريدون التعامل مع الممثل الذي يرضخ لطلباتهم دون قيد أو شرط وكان “تاجا” يمتلك وجهة نظر في مختلف الأدوار والأعمال التي يقوم بتقديمها ما حرمه من العمل لبعض الوقت إلى أن ساعده صديقه “طلحت حمدي” في العودة إلى الميدان الفني أواخر السبعينيات لينطلق مجدداً في مسيرة فنية تذخر بالأعمال التي أصبحت خالدة في ذاكرة المشاهد السوري وحتى العربي.
اقرأ أيضاً:“فوزي الغزّي” أبو الدستور السوري
سألتُ صديقة عن أول صفة تخطر في بالها حين يُذكر اسم “خالد تاجا” فأجابت أنه مبدع فطري، حيث لم يكن “تاجا” خلال أدواره يُشعِر المتلقي بالتكلف، كان يلعب الدور ببساطة وعفوية حتى يكاد المشاهد يجزم أنه لا يمثّل بل يعيش الدور على وجه الحقيقة.
فيما يحفل سجل “تاجا” بذخيرة واسعة من الأعمال الفنية التي تركت بصمتها عند المشاهِد وحجزت لـ”تاجا” مكانة خاصة في قلوب متابعيه لا يشاركه فيها أي فنان آخر، حيث خاض “تاجا” في أدوار مختلفة الأنماط ترك في كلٍّ منها أثراً خاصاً فلعب دور “ابن عبّاد” في المسلسل التاريخي “الزير سالم” ولعب دور “أبو عبدو” الطالع من رحم البيئة الشامية القديمة في “أيام شامية” وقدّم الكوميديا في “يوميات مدير عام” والتراجيديا في “التغريبة الفلسطينية” ولعلّ إحصاء أعماله وصفات كل دور قدّمه يحتاج حديثاً طويلاً لا يُختصَر في مادة صحفية.
تزوّج “تاجا” 4 مرات انتهت جميعها بالفراق، ابتداءً من الزواج الأول من المغنية السورية “سحر المقلي” التي أنهت حياتها حادثة مروعة في فندق “سميراميس” مطلع الثمانينيات وصولاً إلى زوجته الكندية الأخيرة التي انفصلت عنه وعادت إلى بلادها.
من جهة أخرى كان “تاجا” يحمل هموماً سياسية تتعلّق بالشأن العام والوضع العربي لاسيما القضية الفلسطينية حيث تتكرر في مقابلاته تلك النقمة على الصمت الرسمي العربي عن الجرائم الإسرائيلية وقد ذكر في لقاء مع صحيفة “الراية” القطرية عام 2008 أنه لا ينتمي لحزب ما لكنه يحمل غضباً شديداً تجاه الحالة الراهنة للعرب.
ويروي “تاجا” في لقاء آخر مع صحيفة “الأخبار” اللبنانية أنه يجد في التمثيل حالة فرح وتفريغ للهموم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن تفريغه المبدع دفع الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” إلى أن يطلق عليه لقب “أنطوني كوين العرب” فيما صنّفته مجلة “التايم” الأمريكية عام 2004 كواحد من أفضل 50 ممثل على مستوى العالم.
تجددت معركة “تاجا” مع المرض بعد أن تجاوز السبعين من عمره وانتهت تلك المعركة برحيل قاسٍ لواحد من رموز الدراما الراسخين في ذاكرة السوريين فغاب بحلول الرابع من نيسان 2012 حين حمله فنّانو “سوريا” وأبناء “دمشق” إلى مثواه الأخير في “ركن الدين” ليغيب جسده ويبقى أثره حاضراً في تاريخ الدراما السورية.
اقرأ أيضاً:“ياسين بقوش” عرف أصوله الليبية بالصدفة وتوفي بفعل قذيفة