أمّة الماضي يَقتُلها وتَقتُلنا- أيهم محمود
أمة الماضي تكره التفكير والسمو فوق القول.. لا شيء لديهم سوى القحط الذي يظنون بؤساً أنه إبداع
سناك سوري-أيهم محمود
أمّةٌ واحدة، أمّةٌ متكاملة، مختلفةٌ ألسنتها، متطابقة تصرفاتها، تكره التفكير، تكره أن تسمو فوق القول وفوق الشخص فتتغطى به لتجعله سقفها الصُلب الذي يُحرَّم على الجميع تجاوزه تحت طائلة العقوبات القاسية الرادعة، أمّةٌ تجترّ نفسها وحكاياتها وتاريخها، قال هو ليناموا هم، قال هو ليغفوا جميعاً سعداء هانئين، قوله وفعله فرضُ كفايةٍ عنّهم جميعاً، قال وانتهى بعده الزمن وانتهى بعده التاريخ.
حدث في الماضي وقيل كذا وكل ما عليهم فعله هو تلميع هذا الحدث والقول لكي لا يصدأ مع مرور الزمن، ينفضون الغبار عنه كي يظل لهم ماضي يفخرون به ولكي لا يضطروا إذا بهت لونه للعمل على صناعة حاضر جديد ليكون ماضٍ لهم أو انتاج قولٍ آخر يحتمون بظله، لقد قالوا أو فعلوا قبل عام أو قرن أو ألف عام ولماذا يهتمون بالعد حتى لو مضى ألف ألف قرنٍ مما يعدّون، لقد أراح بفعله أو قوله هذا أمة “الماضي” العظيمة من عناء التفكير ومن عناء التمحيص وعناء التدقيق والتصويب.
اقرأ أيضاً: القضاء على الشهامة – أيهم محمود
قال الأجداد والأسلاف ووإلخ أو فعلوا ليحيوا هم سعداء ولتمرَّ ظواهر الكون أمامهم وهم مبتسمين، لا شيء يعادل سعادة البلاهة ومن لا يصدّق وجود سعادة البلاهة فلْيسأل سجناء الفكر في أمّة “الماضي”، ليسألهم عن ألمهم المزدوج: ألم الوعي وألم رفض الأمة العظيمة لهم ثم التخلي عنهم وإيداعهم في ظلمات الأقبية وظلمات الذاكرة وظلمات أحقاد الأمّة عليهم.
أمّة “الماضي” لا تتبدل ولا تتغير، تعيد وتعيد وتزيد وتستزيد من ذات القول ومن التقليب المستمر لوجوهه ومن اختراع معانٍ ليست في أصله فهم ملوك التفسير والتأويل وإنطاق القائل حتى بما لم يفكر فيه، يخافون الضوء ويخافون النمو ويخافون المدى المفتوح، يحبون العفن والاستنقاع في وحل المتشابه المتماثل، لا يسألون ولا يتمردون، لا يشكون ولا يتذمرون، يرددون ويرددون حتى يملُّ الصدى منهم ويرحل، كل الكون يعكس صدى الأصوات إلا جبالهم فقد ملًت منهم وهم لم يملوا من الإعادة حتى لو لم يكن فيها ذرة استفادة.
اقرأ أيضاً: دعوة لتدريس الشطرنج كمادة إلزامية بالمدارس – أيهم محمود
أمّة ‘الماضي” توحد القلوب وتفرق العقول، تبلبل الألسنة وتُعمي البصائر فلا يبقى فيها إلا البصر المحدق في الفراغ بلا كللٍ ولا ملل، ينساهم الزمن وعندما يذكرهم ويرى حالهم يهز رأسه ويمضي عنهم بأسى ولا يعود إليهم إلا بعد قرون عدة، مل الزمن منهم وهم لم يملّوا من أنفسهم ولم يملّوا من زعمائهم ولم يملّوا من ترديد أقوالهم والتغني بأفعالهم وتقليد تصرفاتهم وأسلوب كلامهم وطرق أكلهم ومشيهم وسعالهم وعطاسهم و….، أخجل من ذكر الباقي فهم أمّةٌ حساسةٌ تستحي، تستحي من شيءٍ ما تجهله لكنها على الأقل تستحي وهي لذلك مختلفةٌ عن أولئك الذين ينتقدون أجدادهم وآباءهم ولا يستحون من نقض ما قالوا أو فعلوا في غابر الأزمنة وسابق السنوات.
أمّة “الماضي” تكره العمل وتكره الإبداع فيه وإن كان شرّه لا مهرب منه فعملٌ مكررٌ ومعروف خيرٌ من عملٍ مجددٍ لخلايا الدماغ يدعو للبحث والتفكير، لا يجب صرف الطاقة على الأبحاث فهذا يُضعف من قدرة الإنسان على اجترار ذات المقولات آلاف المرات، الأعمال مقاماتٌ موسيقية: الويل ثم الويل لمن يخرج عما قاله الأجداد منها، فمن خرج عنها نشاز ومن حفظها عن ظهر قلب فهي أنغامٌ وجمالٌ وإبداع، لا يملكون سوى الفراغ والخطوط السوداء تحت الأسطر الهامة في أوراق الكتب الصفراء، لا شيء لديهم سوى القحط الذي يظنون بؤساً أنه إبداع.
أمة الماضي، ليست ديناً أو عقيدة واحدة أو مذهباً أو ..إلخ، هي كل من هو غارق بالماضي فقط من أي دين وأي عقيدة وأي مذهب وأي دولة كانت.
اقرأ أيضاً: الهجوم السياسي من بوابة الجنس – أيهم محمود