أكره الرطوبة والبحر والصيف – عفراء بهلولي
عندما يشد وجهه ويحبس نفسه اعلموا أنه يفعلها بالماء!
سناك سوري- عفراء بهلولي
في مدينتي الساحلية أصاب بالخمول وأعتقد أن الرطوبة هي السبب، كما أصاب بألم في المفاصل وتصبح بشرتي باهتة فالرطوبة العالية تلتصق بوجهي بثيابي بأنفاسي.. ببساطة أنا أعيش في حمام ساونا، لا أريده!.
لطالما استغربت كيف يحب الناس المدن الساحلية ويزيد تعجبي من محبتهم لها في الصيف، حين ترتفع نسبة الرطوبة وتفوح في الأجواء رائحة العرق البشري (في ظل غلاء الديودران)، وتكون أكثر كثافة في مواصلات النقل وفي أي تجمع بشري يزيد عن شخصين.(باص النقل الداخلي مثلاً).
ولأن المدن الساحلية تعني وجودك على البحر، هذا يرفع معدل التجمعات البشرية وتصبح دائرتك الآمنة في خطر وسوف تحارب بكل ما أوتيت من رطوبة لتحصل على مساحتك في الرصيف، ومحل الملابس، أو حتى في حمام منزلك فالجميع يصرخ “مشوب بدي اتدوش”.
يصر أصدقائي عليّ للذهاب معهم للبحر (قال لأني فرفوشة وبحب الضحك)، وأنا الكائن الكاره “للبل الغاصب” من التجمعات البشرية، وتحت وطأة الإلحاح أرضخ فالرطوبة تجعلك أضعف من أن تبذل جهداً لكي تدافع عن موقفك.
بعد التخطيط ودفع المعلوم وتوزيع المسؤوليات نستقل السرفيس وسط صخب صديقاتي وتخوفي أنا من مزاجيتي الفجائية.. السائق بعد نصف ساعة من الطريق يصبح أكثر صخباً منا، ولو رأيته عن بعيد لاعتقدت أنه زميلنا. صوت أغاني مرتفعة وسرعة لا بأس بها على الطريق.. وأنا أنظر ليده المسنودة على باب السرفيس وأفكر بكمية العرق المتطاير بسبب دخول الهواء من فتحة قميصه، تباً للبعض إنهم لا يجيدون الاستحمام، لا ربما تباً للقمة العيش كم هي مغمسة بالعرق في هذه المدينة.
نصل الشاطئ المنشود تخلع صديقاتي أحذيتهن ليمشين على الرمل الحارق فهذه الحركة أساسية لطقوس البحر، أتشبث أكثر بصندلي “لن أتخلى عنك”، ألقي نظرة واسعة على المكان “الشعبي البسيط الفقير” لأصاب بالهلع من كثافة البشر المنتشرة (معقول كل سوريا متفقين ينزلو عالبحر اليوم)، أعطي أذني للناس فأسمع صوت الضحكات العالية، وتلفتني ألوان مظلات البحر… أما الأطفال بدواليب السباحة فيجعلونك تعتقد أن الناس هنا “هم أسعد خلق الله”.
أقول في نفسي ربما أنا المعقدة (هذا رأي صديقاتي وربما من يقرأ الآن)، وأحمّل الأمور أكثر مما تتستحق، تختار صديقتي منسقة الرحلة الطاولة الخاصة بنا تحت شمسية مصنوعة من سعف النخيل بشكل يوحي بأنك في جزر الهاواي.. تذهبن للمشالح وتعدن مرتديات ملابس البحر “وبعض العيون تبحلق نحوهن”، أما أنا الكارهة للماء أبقي بفساتني وصندلي، والمصيبة عندما تجدون فرسان نهر (تعبير مجازي) ينزلون للمياه وكأنهم بوسيدون آلهة البحار والمضحك أن الجميع يمشي على الشاطئ وفي المياه ولا تجد إلا قلة قليلة ممن يعرفون السباحة وعندما يخرج فرس البحر، يصر على التمردغ في الرمل وحرق جسده لأكثر من ساعة وتصر الإناث على دهن أجسادهن بزيت البحر لاكتساب لون برونزي كعارضات الأزياء.
اقرأ أيضاً:على طريق الشام … عفراء بهلولي
المشهد من الخارج يتغير تماماً عندما تصبح جزءاً منه.. الأولاد يصرخون أو يضحكون فهذه المساحة الوحيدة شبه المجانية ليفرحوا بها، حفاضات أطفال تبدل على نفس طاولة الطعام بين كؤوس العصير والمشاريب، طفل يصرخ وأب يرغمه على السباحة طفل آخر يخرج من المياه ليقضي حاجته (ماما وين بدي اعملا؟ تجيبه بالمي حبيبي)، أنظر للمياه والبشر فيها جميعهم يفعلونها بالمياه، فلا حمامات أصلاً في شواطئ الفقراء، أو كما يسميها المسؤولون الشواطئ الشعبية.
على بعد طاولتين مني توجد عائلتين، معهما رجلان متجهمان وأفسره بيني وبين نفسي ( المصاريف بتخرب فرحة أي شيء حتى لو كان فرحة عرسك)، وعلى بعد نظرة منهما هناك الكثير من الهرج بين الأطفال المراهقين الشاعرين حديثاً برجولتهم، والكثير من البطيخ الأحمر والشراهة في طريقة التناول، والأراكيل منتشرة بين الكراسي، والأوساخ مرمية تحت الأقدام مخلفات البزر وقشور الموز والتفاح، أفعل مثل معظمهم فحتى أنا لا أجد سلة قمامة أرمي بها قمامتي ولم يعلموني أصلاً آلية اصطحاب كيس معي أجمع فيه كل قمامتي وأرميها في نهاية المطاف بالحاوية.
فجأة وسط الصخب ومئات الموبايلات المستعدة دائماً لالتقاط الصور وأصوات الأغاني المنبعثة من كل الأماكن حولك والأحاديث العالية وصراخ الأطفال يعلو صوت بمعدل كل ساعتين شبان يتشاجرون ( يا ابن الـ… ماعندك أخوات بنات) ويبدأ الشجار، وعلى الشاطىء ثلاث أنواع للشجار إما لأجل تلطيش فتيات، أو بعد جملة ليش عم تزاور، أما الشجار المضحك فيكون بعد اكتشاف أحد العائلات أنهم نسيو غرضاً ما في المنزل.
يبدو أنني أكره الاصطياف، فلو عزلت العبء المادي لن أستطيع عزل العبء النفسي والجسدي، لكن عندما أتخيل الاصطياف كما في الأفلام جميل يجعل النفسية أكثر راحة ولكن كما كل مايحدث في حياتنا الواقع غير الأفلام.
ينتهي اليوم العصيب عليّ الجميل لصديقاتي بأقل الخسائر وبتوزع درجات الحروق بين شديد إلى متوسط، أخرج من المكان وأحلف آخر مرة بطلع ع زحمة تباً للرمل الملتصق بالأقدام والملابس والأغراض، ومن ثم في كل مرة أعود لأكتشف أنني أحب هذا الواقع وهؤلاء الناس وكل ما يحدث هنا من بساطة وعفوية وفقر ومعاناة وأحلم أن يكون العيش كما في الأفلام.
اقرأ أيضاً: شواطىء ذوي الدخل المحدود المفتوحة في “اللاذقية” بس بـ10 آلاف ليرة باليوم