آخر حديث مع “أبو طلال” – شاهر جوهر
طوال سنوات معرفتي له وهو يناديني (بالخال)، لا أذكر أنه ناداني باسمي. كنت أستدين منه بعض الكتب حين تُعجزني الحياة، كما كان لا يبخل في إعارتي بعض كتبه التي أحتاجها لكتابة حلقة بحث.
سناك سوري – شاهر جوهر
قبل أيام أذيع في دمشق نبأ وفاة بائع الكتب الشهير “أكرم كلثوم”، المعروف وسط محبيه من طلبة الجامعة ومثقفي الطبقة الوسطى بـ “أبو طلال – تحت الجسر” و “العم”، “عميم”، “شيخ قراء دمشق”، “ورّاق دمشق” وغيرها من مسميات المحبة التي لخصتها النعوات التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي.
حين رأيت صورته محاطاً بكتبه تحت جسر الرئيس وسط العاصمة وقد تمت نعوته من محبين كثر في عموم الوطن، لم يكن للذاكرة بد من أن تدفعني لتذكر وجهه الأسمر الجميل، الباسم على الدوام رغم حرارة الشمس الساقطة على هامته طوال النهار لنيل رزقه.
لم يترك دمشق مذ عرفته. لا الحرب، ولا الحصار دفعاه ليهجرها كما فعل الملايين من أبناء هذا الشعب المعذب.
يمكنك الاعتماد على هذا المثقف الحاصل على شهادة الصف السادس في مساعدتك على الحصول على عناوين كتب تهم حلقة بحثك أو مشروع تخرجك أو أي مقال صحفي أو بحث علمي.
و تعيدني الذاكرة الآن إلى الوراء، إلى ثلاث أو أربع سنوات قبل الحرب، كنت حينها طالباً جامعياً في سنته الثانية، باحثاً عن بعض الكتب على سياج التكية السليمانية حيث كانت بسطته قبل أن ينتقل لبيع الكتب تحت الجسر لاحقاً.
أسند ظهره على سياج التكية وقد جلس على صندوق خشبي قديم يرتب بعض الكتب التي كان يخرجها من كيس خيش، اقتربت نحوه :
– بساعدك؟
– المنيحة ما بدها سؤال
بالفعل قرفصت قربه وتبادلنا حديث البائع والشاري، ثم سألني:
– لهجتك ريفية
– أنا من الجولان
– نازح ؟
– أي نعم نازح
ضحك ثم طبطب على كتفي :
– أهلا بالخال
– عراسي خال
كلمة خال هي كلمة يكررها أبناء الجولان فيما بينهم بكثرة، لربما لأننا جيل يشعر باليتم. في تلك الأثناء سقطت عيناي على أحد الكتب، سحبته من الكيس ثم وضعته على جنب، ثم قلت له :
– سنتفاوض على سعره بعد قليل
ضحك مرة أخرى، ثم نفث دخان سيجارته وأخذ يحدثني عن معرفته بجغرافية الجولان وتاريخها وأصدقائه الكثر في القنيطرة.
انتهينا ثم مسك كتاب “طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي” الموضوع على جنب ودسه بين كتبي وقال بحب:
– هدية المحل
حاولت أن أعترض، لكنه أصر على ذلك، ثم أردف مازحاً:
– لا تقلق لن يقدر نازح مثلك أن يضحك على أبو طلال، في المرة القادمة سأعوّض ثمنه بكتب أخرى أبيعها لك
– لن تراني إذاً
– لك عمي ما حدا ما فيو ما يرجع لعند أبو طلال
بالفعل إنه مثل دمشق، لا أحد يعرفه إلا ويعود إليه.
طوال سنوات معرفتي له وهو يناديني (بالخال)، لا أذكر أنه ناداني باسمي. كنت أستدين منه بعض الكتب حين تُعجزني الحياة، كما كان لا يبخل في إعارتي بعض كتبه التي أحتاجها لكتابة حلقة بحث.
حين تخرجت من الجامعة جئته مودعاً، ضممته بقوة وسألته النصيحة، سألني :
– إلى أين العزم؟
– للبلد
– ولما تودعني?
– لأني تخرجت
رفع يديه عالياً ثم ضمني إليه :
– ألف مبارك ، ألف مبارك
ثم أضاف مقلّداً لهجتي المحلية :
– أعطيني حُبّة لكان
قبّلته على رأسه وقبّلني بحرارة، ثم سألني :
– ماذا الآن ؟
– لا أعرف، سأقوم بالتدريس من ثم سأفكر في تسجيل الماجستير
شجعني كثيراً على تلك الفكرة، ثم اشتريت منه بعض الكتب لأتزود بها في قريتي البعيدة عن العاصمة، دعوته لزيارتي، فكانت آخر كلماته لي :
– سلامي للجولان
والآن لا يسعنا القول سوى (سلاماً أبا طلال).
اقرأ أيضاً: دمشق توّدع العم “أبو طلال” عاشق الأوراق الصفراء و الكلمات المطبوعة