وهم الياسمين.. دمشق النموذج والضحية_ أيهم محمود

ما هو الوجه الآخر للياسمين ولماذا ينتقد البعض بخجل رقته؟.
سناك سوري_ أيهم محمود
انتظرتْ هذه المقالة طويلاً كي تستطيع الخروج على شكل كلماتٍ مكتوبة، بين انتقاداتٍ خجولة على مواقع التواصل الاجتماعي لفكرة الياسمين وبين دفاعٍ عنها بدأت كلمات هذا النص تتشكل، دمشق النموذج والضحية للعواصم الجامعة وللتوحد حول العبارات اللطيفة الساحرة مثل رقة عطر الياسمين وجمال أزهاره.
دمشق فكرة والفكرة لا تموت، تعاقبت على دمشق أنظمة سياسية مختلفة في القرن الماضي وبقيت المدينة صامدةً تُطوّع زائريها بصمتٍ وحكمة، تحتاج الفكرة الشعبية أحياناً مئات الأعوام لتتطور أو تندثر على العكس من الاتجاهات السياسية التي تتحرك سريعاً على السطح لكنها تفشل في التغلغل والاستقرار في المنازل والنشاطات التجارية وفي تلك الصور التذكارية التي نلتقطها كعلامات فاصلة في تاريخنا الشخصي، أنظمةٌ مختلفة متعاقبة وحادثُ وحدةٍ طارئة لم تصمد أمام الحركة البطيئة اللزجة لمجتمع الصمت والمصالح العميقة، قشرة الأرض التي تطفو فوق بحرٍ من الحمم المنصهرة في جوف الأرض، السطح القاسي الذي نقف عليه بوهم الأمان إلى أن تتحرك الأعماق بزلزالٍ مدمر أو تنفجر البراكين فنصحو ونتذكر أننا نسبح فوق جحيمٍ منصهر ثم ننسى ما حدث مؤقتاً في انتظار زلزالٍ آخر.
اقرأ أيضاً: حروب الطاعة والتمرد_ أيهم محمود
دمشق ليست وحيدة، فهي العاصمة الأقدم منافسةُ القاهرة لذلك كان من الصعب اجتماعهما معاً في بيت زوجيةٍ واحد وفي مجتمعٍ شرقي لا يوازن جيداً علاقة الطرفين فيمنح أحدهما مزايا واسعة على حساب الطرف الآخر، دمشق النموذج الذي شربت منه الكثير من عواصم الشرق القديمة والمُحدثة أسلوبها ونشاطها، دمشق المركزية القاتلة التي لا ترغب في مشاركة أحد، المدينة المزهوة بشابها وجمالها وتفردها قبل أن يقتل الزمن والغرور الشباب فيذهب الصبا ويذهب السحر فالعواصم لا تعيش منفردة بل تتألق بالسحر الكامن في عيون عشاقها وحين يخفت سحر العيون تذوي المدن وتشيخ بسرعة وكأنها لم تكن في أوج قمتها قبل قليل، وكأنها لم تكن مثال العطر ومثال الجمال وفي دمشق -نموذجنا- مثال الياسمين والرقة، ما الذي حدث وما هو الوجه الآخر للياسمين ولماذا ينتقد البعض بخجل رقته؟.
المركزية القاتلة التي لا تسمح بنمو الأطراف المهددة بنزع بعض الصفات منها، من يريد كل شيء يفقده كله، نتحدث عن الفكرة المعممة ثقافياً وليس عن دمشق المدينة القابعة بحجارتها العتيقة على مرتفعٍ جميلٍ محاطٍ بالبساتين قبل أن تغزوه الحجارة مع اكتشاف أهلها نفسهم أن زراعة الاسمنت أهم من زراعة الأشجار وأكثر ربحيةً منها، وأن المال أهم من الحياة وأن الأفكار تشبه كثيراً الفيروسات: شديدة العدوى وأحياناً قاتلة.
دمشق الفكرة غزت كل مدينة، تضخمت المدن على حساب الأرياف فهي المركز وهي النجاح وهي الأهمية الاستثنائية لقاطنيها، هي مراكز صنع القرار ومراكز الخدمات، مراكز التعليم المتقدمة، المستشفيات، وهي الضوء الوحيد الساطع وسط أرياف مهمشة لا تملك صوتاً مسموعاً بالرغم من مشاركة أبنائها الواسعة في السلطات السياسية في بعض الحقبات الزمنية، ما المشكلة إذا؟ وكيف تهزم الأفكار البدائية الموضعية الإرادات السياسية ومصالح الطبقات الاجتماعية ومصالح الأفراد أنفسهم إن نظرنا لهم كجزء عضوي من كياناتهم الاجتماعية لا كحالات متفردة معزولة.
اقرأ أيضاً: المنظومة العلمية وإغواء الشهرة_ أيهم محمود
نجحت دمشق في إقناعهم بأنهم إستثناء في محيطهم، نجحت في إقناعهم أن الخلاص فردي، دمشق هي اللاذقية وحمص وحماة وحلب والرقة، دمشق هي كل منطقةٍ تتعالى على محيطها، وهي كل قريةٍ وكل أسرةٍ وكل فردٍ يؤمن بفردية الخلاصوبأحقيته الاستثنائية به، جذبت دمشق الفكرة البشر، انتزعتهم من أراضيهم وقراهم ومدنهم الهامشية وأسكنتهم فيها تطويعاً لهم ثم اكتشفت أنها خنقت بساتينها وخنقت ياسمينها حتى لم يبق منه إلا ما يتغنى به الشعراء في قصادئهم وما يتغنى به عشاقها المدمنين الذي لم يروا بعد صورة المرأة المسنة التي تتهاوى تحت ضربات الزمن وتحت ضربات الواقع الذي يحطم دائماً كل وهم.
ألم تفعل باقي المدن التي تشتكي من سطوة الياسمين مع الأرياف ما فعلته دمشق بهم؟ ألم تحاول هذه المدن الاستمرار في منهجها رغم كل الخراب الإنساني الذي يعاني منه الجميع، تُبنى العواصم والمدن بالبشر وبسعادتهم وليس بالحجارة والياسمين، لا يمكن لمن لا مستقبل له، لمن لا فرصة له لتكوين أسرة أو إيجاد مأوى له ولأسرته المتخيلة أن يشم رائحة الياسمين لا في دمشق ولا في غيرها من المدن والعواصم، رائحة القهر أعلى من رائحة الياسمين، رائحة الدم الذي دفعه الفقراء للحفاظ على فكرة وطن فكافأتهم الفكرة ببيع سيارات وعقارات بالمليارات لترفيه نخبه بينما هم يقفون في طوابير الخبز والوقود، هناك من يستغرب عداء الرعاع للعطر! كيف يرفضون رائحته الراقية؟ كيف لا يستحسنون تزويد الأحياء الراقية! بالكهرباء والخدمات بل ويطالبوا بالمزيد من الحرمان منها من أجل أن لا تتأثر مشاعر المترفين من الحصار؟ كيف يسألون لماذا نزداد نحن فقراً وسوء خدمات بينما يزداد هؤلاء غنى وتعليم وثقافة لأن لديهم مزيد من الخدمات ومن التسهيلات ومزيد من الدعم اللامشروط، عن أي ياسمين يتحدث البعض؟ عن أي وهم؟، لقد تم التخلي عن الإنسان البسيط من قبل الجميع، من قبل الأحزاب التي ادّعت أنها خرجت من رحم معاناته ومن قبل أبناء البسطاء أنفسهم حين أقنعتهم عواصم الشرق المختلفة أن مصالحهم معها وليس مع طبقاتهم الاجتماعية التي خرجوا من رحمها.
دمشق حالة متكررة داخلياً في كل مكان ومتكررة خارجياً في هذا الشرق المتعب، حالة عليها أن تعيد نفسها وتكرر هزائمها المرة تلو الأخرى حتى يصل التغيير الحقيقي إلى الوعي العميق للأفراد ليعلموا أن الخلاص جماعي وليس فردي وأن الياسمين الحقيقي هو ابتسامة الناس وأن عطره هو أملهم في الحياة حين يحبون ويفرحون بأطفالهم وحين يتقدمون في علومهم ومهنهم في كل المناطق دون تمييز بين مدينةٍ وأخرى وبين حيٍّ وآخر، الياسمين الحقيقي هو فعل التشارك في القرار والتشارك في الخلاص والتشارك في اقتسام الحياة والأمل.
اقرأ أيضاً: صناعة العجز- أيهم محمود