الرئيسيةيوميات مواطن

لم نخسر كرامتنا بعد.. هذه الأمة تفشل لكن لا تموت

عندما تدفعك الحياة لشكر الله أنك بقيت إنساناً لازومبي

سناك سوري – زومبي

البارحة في السوق الشعبي القريب من حيّنا، وقفتْ فتاة صغيرة ترتدي خماراً أسود يغطي كامل جسدها، فجأة غدرت بها نسمة سريعة مفاجئة فكشفت عن وجهها، فجفل طفل صغير في السوق لرؤيتها باكياً، فأصيبت الفتاة بصدمة نفسية كبيرة، بكت وركضت تحتمي بعزلتها في منزلها تخفي مافعلته الحرب بوجهها.

أنا أعرف هذه الصبية جيداً، لكن لا أعرف كيف نمت بسرعة هكذا، أذكر حين حملها والدها طفلة عام ٢٠١٣ لينجو بها من منزل احترق بفعل سقوط قذيفة. قال الأطباء حينها إن حروقها من الدرجة الثالثة لا أمل بأن تعيش كطفلة طبيعية بعد اليوم.

التاريخ لا يدوّن أوجاع أولئك من نكبتهم الحروب، التاريخ يكتب فقط ما يفعله الكبار بنا فيحوّلهم إما أبطالاً أو يصيّرهم إلى أنذال وفق ما تقتضيه رغبة المنتصر.

اليوم في المسجد صلى بقربي شاب لا أعرفه، يحمل عكازه ويستقيم بجهد على ساق واحدة، على جانب وجهه الأيمن حين ألقى السلام في نهاية الصلاة أخبرتني جروح قديمة ملتئمة على وجهه كيف لهذه الحرب قدرة لتتركنا دون أن توقّع بآلتها على أجسادنا الغضة. مع ذلك ليس لأولئك المكلومين من حولنا سوى الرضا والحمد.

في طريق العودة للمنزل تذكرت أنا الشامت بهذه الحياة و المتذمر منها على الدوام ذاك الشاب الذي لا أعرفه، التقيته في إحدى المشافي الميدانية قبل بضع سنوات حين كانت البلاد حرفياً قطعة من جهنم. كان الجرحى في كل مكان، رائحة الدم الزنخة المنبعثة من قطع اللحم البشرية تعب ملء الأنفاس. صراخ، عجلة، بكاء، لطم وعويل. كل شيء هناك يدعوك لشكر الله على بقاءك إنساناً لا زومبي.

كنت برفقة قريب لإجراء إحدى العمليات، وفي غرفة الانتظار قامت الممرضات بإخراج شاب عشريني من العملية، وجه والده البائس يخبرني أنه أحد نازحي هذه البلدة التي غصّت بالهاربين من الحرب، لحيته وعيناه التعبتان بل كل شيء به كان متعبا ولا يقوى على الحديث، قالت إحدى الممرضات سيحتاج تأثير المخدر (البنج) لبعض الوقت فلا داعي للقلق إن تحدث بكلام غير لائق أو مفهوم.

كان ذاك الشاب المخدّر كما لو كان يحدث نفسه في السر، كما لو كنا نحن سره وسريرته، سأل والده عن دراجته النارية هل تأذت بعد سقوطه عنها خلال هروبه من إحدى صولات الدواعش، وسأله عن حماماته هل لازلنّ بخير ولم ينهبهن أحد. ثم فجأة كال السباب والشتيمة لحماته، وتحدث بأسف كيف سرق ألفي ليرة من محفظة زوجته كانت قد خبأتها لتشتري علبة مرطب لوجهها الذي اخشوشن من النزوح. أذكر حين قال بحرقة (أنا عقيم يا يوب كل هالسنين مرتي بتعرف إني ما بجيب ولاد وكنت بطلع عليها بالعالي) تغير صوته وأمسك يد والده ثم أكمل بوجع (بدي ولد يا يوب، أي شي منشان الله، بدي ولد يحمل اسمي، أنا قبلان يكون جرو يكون كلب، حتى لو رجل كلب بس المهم ولد يقلي يابا، مابدي موت وأنا وحيد يا يوب، منشان الله قول للدكتور بدي ولد).

اقرأ أيضاً: بعد حواري مع متشرد أنا لا أشعر بالارتياح مثله – شاهر جوهر

لم يقوَ والده على التحمل، بكى حرفياً كطفل، قد أعجز عن وصف ما جرى، حاولنا أن نصبّر الأب لكنه لم يقوَ على ذلك، كنت أعلم أنه يحاول ألا يبكي، لكنه نشج بصوت تتقطع له نياط القلوب، وحين طفحت عيناي أنا الآخر بالدمع حملت جثتي أواري دموعي بين الجرحى والباكين خلف صوت الرصاص في الخارج.

هذه الحرب كهذه الحياة أقسى مما نتخيل، لكم رأيت خلال هذه السنوات رجالاً يبكون كالنساء، ونساء تحولنّ إلى أشباح. لكن مع هذا لازلنا لم نخسر كرامتنا. فهذه الأمة لا تموت، تفشل لكن لا تموت.

فحين تنظر إلى وجهك في المرآة كل صباح قل الحمدلله أنه لم يحترق كما احترقت وجوه شبان وشابات سوريا الجميلة، قل الحمدلله على نعمة التفاصيل الكاملة.

حين تدوس قدماك الأرض أثناء ذهابك للعمل، للمدرسة، للدكان قل الحمدلله على نعمة المشي، الحمدلله الذي لم يجعلني كلّاً على أحد.

حين تعود إلى منزلك متعباً فتصرخ وتشكو لأصدقائك عدم قدرتك على الراحة والنوم بسبب صراخ أطفالك أثناء لعبهم قل الحمدلله، فهناك من يتمنى لو يرزق بساق كلب ينتظره عند الباب ليقول له “يا أبي”.

اقرأ أيضاً: الحياة الهادئة نعمة – شاهر جوهر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى