غادة السمان.. جرح عتيق خلف رحيلها عن دمشق
غادة السمان تشاجرت مع دمشق وهجرتها وصدر حكم بحبسها
“رحلت كثيراً ولم تغادر دمشق” وكأن هذه العبارة تختصر العلاقة الشائكة والمعقدة بين الكاتبة والروائية السورية “غادة السمان”، ومدينتها الأم “دمشق” تلك المدينة التي أغرمت بها حد الثمالة، وفي لحظات عاصفة غادرتها قبل أكثر من خمسين عاما وظلت تزورها خلسة في مناماتها ويتراءى لها أن جارها نهر السين في “باريس” ما هو إلا بردى. من لم يغرم بقلم تلك المرأة المتفردة العاشقة والغارقة في محبرة اسمها دمشق إلا أن خلف ذلك العشق جرح دمشقي عتيق.
سناك سوري – عمرو مجدح
في كتاب “رسائل الحنين إلى الياسمين”، تحكي “غادة السمان” عن شجارها مع مدينتها الذي تصفه بشجار العشاق قائلة: «أحببت دمشق بجنون المراهقين. كما في حكايا الحب الكبيرة كلها، كان لا مفر من شجار العشاق، والفراق. ذلك الشجار الأهوج الذي ينتهي بعد لحظات أو سنوات – أو قرون – بعناق محموم وتساؤل صادق بلا جواب : لماذا تشاجرنا؟ ربما لأننا أحببنا أكثر مما ينبغي. هل يتصرف المرء بحماقة نادرة المثال إلا حين يكون عاشقا».
في “القبيلة تستجوب القتيلة” تسرد عن جرحها الدمشقي نازفة: «ذات يوم ، ذات جرح ، حکمتني أمي دمشق بالسجن لمدة ثلاثة أشهر لأنني تركت عملي فيها دون إذن مسبق، وأنا من حملة الشهادات العالية !! ولولا ذلك العفو العام الذي صدر في السبعينات وشملني ، لكان علي أن أرمى في السجن».
وتضيف في مكان آخر من الكتاب كاشفة عن اصطدامها مع مدينتها : «دمشق طفولتي وأمي وجرحي .. دمشق التي هجرتها منذ عام 1964 دون أن أهجرها .. كان مجتمعها فوق طاقتي على الاحتمال ، أو كانت ثورتي فوق طاقتها على القبول ، اصطدمنا .. وهجرتها ولم أهجرها .. سيظل قلبي ينبض تحت أصغر قطعة حصى في قاسيون وستحرق جثتي بعد أن أموت ليهطل رمادها مطرا ملونا في اللاذقية مدينة أمي ، ودمشق مدينة أبي».
يتردد كثيرا سؤال لم لا تعود “غادة” إلى “دمشق”، وتجيب عن ذلك في “رسائل الحنين إلى الياسمين” قائلة : «لا أعود لأني جبانة في ملكوت الحب. لا أعود لأنني خائفة. ما الحب إلا للحبيب الأول : الوطن. لكنني خائفة. أمام الحب الكبير أنا ملكة الجبناء. وليس بمقدوري أن أخسر دمشق مرتين ! كأنني أريد أن أظل بعيدة كي تظل دمشق تحبني، مثل عاشقة لا تجرؤ على لقاء حبيبها كي لا يخيب أمله فيها، فأنا امرأة لا تصلح لغير الكتابة، وأخاف ملامسة حبي على غير جسر حرفي».
اقرأ أيضاً: غادة السمان تكتب لأول أستاذة جامعية في سوريا
في أحد صباحات العام 1973 وجدت كاتبة “يا دمشق وداعا” رسالة في المجلة البيروتية التي تعمل فيها، اسم المرسل غير موجود، وهناك طابعان يعلنان فقط عن هويتها كانت رسالة من دمشق تصف إحساسها بتلك اللحظة في كتابها “ختم الذاكرة بالشمع الأحمر” قائلة: «عشرة أعوام وأنا أنتظر أن تكتب لي أمي العظيمة دمشق عشرة أعوام من الصمت حتى ظننتها نسيتني».
وتضيف متسائلة : «ترى من وقعها لي ؟ قاسيون ؟ الغوطة ؟ ساحة النجمة ، حيث تربيت وكبرت وحزمت حقائبي ورحلت .. وإن كتبت لي دمشق ، فماذا تقول لي ؟ بحرقة تذكرت ليالي وليالي وأنا أنتظر رسالة دمشق إلي».
حين مزقت كاتبة “الأبدية لحظة حب” الغلاف لتقرأ الرسالة خاب أملها فلم تكن مكتوبة بحبر بردی وتراب قاسيون ، ولا بخط الأطفال والأولياء ، وانما كانت رسالة مطبوعة على الآلة الكاتبة ! تقول: «لم تكن رسالة حب أو عتب أو شوق أو غفران أو لعنة.. كانت فاتورة ! أجل ، فاتورة من إحدى المؤسسات التي عملت فيها منذ عشرة أعوام، قبل رحيلي من دمشق ، تطالبني بمبلغ ۱۱۰ ليرة سورية وفرنك واحد فقط لا غير».
وتتساءل بتعجب: «فاتورة ؟ لو جلست و إياك يا دمشق حول مائدة مستديرة و أبرزت لي فواتيرك كلها ، لما قلت لك غير عبارة واحدة : لك عمري ! لفواتيرك عمري الضئيل لا ۱۱۰ ليرة وفرنك واحد فقط لا غير».
تبوح في “الحبيب الافتراضي” قائلة: «ليلة رحيلي عن دمشق، همس أبي بلا صوت داخل قلبي : اذهبي حيث شئتِ ولكن تذكري دائما من أين جئتِ. ولم أنس يوما انتمائي إلى أكثر مدن كوكبي عراقة ولم أتنصل من مراكب الطفولة في اللاذقية مدينة أمي، ولا من أعمدة تدمر مدينة جدتي زنوبيا، وكطفل الحكایا كنت أرمي خلفي خلسة بالحصى المضيء الذي حملته زوادة من وطني كي لا أضل الطريق إلى ابتسامتي».
“غادة أحمد السمان”، (مواليد 1942) كاتبة وأديبة سورية. ولدت في دمشق لأسرة شامية. أصدرت مجموعتها القصصية الأولى “عيناك قدري” في العام 1962 واعتبرت يومها واحدة من الكاتبات النسويات اللواتي ظهرن في تلك الفترة، مثل كوليت خوري وليلى بعلبكي، لكن غادة استمرت واستطاعت أن تقدم أدبا مختلفا ومتميزا خرجت به من الإطار الضيق لمشاكل المرأة والحركات النسوية إلى آفاق اجتماعية ونفسية وإنسانية.
اقرأ أيضاً: البومة المتمردة .. “غادة السمان” كاتبة الاعتراف والتعرية