
أتذكر مقولة: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”. ولكن سأبدأ القصة من مكان آخر.
جميع أسمائنا هنا تحكي عذاباتنا. وهي رسائل عشق ونبذ. فهنا قد تسمع أسماء مختلفة من مثل “دربل” (أي الصبي كتلة اللحم). دهيَك. عزرائيل. ساكسوكان. زوبا. سايكو. طليّة. فيش. فشكة وغيرها الكثير من أسماء صحيح أنها تمردت عن آدميتنا وغصت بها البيوت والذاكرة لكنها قد تبدو غريبة لديك و جميلة وعادية بالنسبة لنا.
سناك سوري – شاهر جوهر
كل ما في هذه البلاد بات غريباً. أو فيها جديد بشيء من الغرابة. ففيها اختلف كل شيء. وعادي جداً أن تختلف أسماء صبيانها وحتى الأماكن. لكن الناس هنا رغم ذلك هم طيبون. أو لازالوا طيبين. لنقل ذلك فقط ونكمل.
أحدهم قال لي ذات مرة (لا أعلم إن كانت الحكومة أو سواها يفرض ضرائب على الأسماء المحلية حتى يسمي الأهل في بلدتك أسماء باهتة بلا معنى).
لكنه لا يعلم أنهم بأسمائهم يدفعون ثمن حرب لم يكونوا طرفاً فيها. ولا يعلم أن معظم تلك الأسماء غزتهم مع تغول القبضة الأمنية للحكومة. و تمدد اللحى المهوشة والشعر المنفوش والسراويل القصيرة فاضطروا للتأقلم معها على وجع.
لكن من بين الجميع. أستطيع الجزم بأن هذا الشخص هو ضحية ما قبل الحرب. ليس ذاك الذي قيل فيه أنه لو كان رجلاً وأقصد صديقي “الفقر”. لا ليس العوز والحاجة. انما ابن جيراننا واسمه فعلاً “الفقر” وهو ما يحقق أمنية “لو كان الفقر رجلاً” ولكن لا أحد أكمل العبارة. لكنه حديثنا لليوم.
اقرأ أيضاً: الفاجعة كبيرة و الأمل في المعزاية
أعرفه بثقة. كيف لا وكلانا من جيل عاش الأبيض والأسود. عاصر زعيمين. وعاش حربين. كما ارتدى بناطيل الفرزاتشي ذات النمط الكلاسيكي في التسعينيات. وجرب كل قصات الشعر التي انقرضت وأضحت مثار سخرية الجيل الجديد من البانكي. و قَصّة الأسد وغيرها.
كنت برفقته أشبه بسمكة سردين صغيرة لا يلائمها للعيش أفضل من ظل زعنفة حوت. لهذا أحببت صحبته في سنوات طفولة مضت. فمنه تعلمت أشياء كثيرة. تعلمت كيف أصطادُ الحمام البري. وآكل السمك الني من نبع القرية. وكيف أعذب الضفادع بارغامها على أكل السماد العضوي فتتقطع أمعائها من الوجع لتطفو جثة هامدة خلال دقائق على سطح البركة. كما كنا نتلذذ سوياً بقطع الطريق على صبية البدو في الجولان وتشليحهم بعض ثمار التفاح والخوخ. وحين يتمرد أحدهم ويتجرأ على قول أن ذلك لا يجوز وغير مقبول. ينهش هو من ثماره ويجيب بتسلط «السارق من السارق كالوارث عن أبيه».
لكن مع كل ذاك التنمّر الذي تعلمته منه. كان له في كل خرابة عفريت. بخت سيء. وحظ عاثر. فمثلاً حين علمت والدته بحملها به احترق محصول القمح. وقف بعدها أبوه فوق الهشيم المحترق وتنهد مردداً بعجز “لعل الخير يكمن في الشر”.
وبعد تسعة أشهر حين أنجبته أمه توفي أبوه بجلطة دماغية. حزنت والدته كثيرا لفقد زوجها. حملت ابنها الصغير ورددت بعينان طافحتان بالدمع “لعل الخير يكمن في الشر”.
اقرأ أيضا : ماذا حدث بعد ليلة عاصفة ؟
وفي انشغالهم بمراسم تأبين الزوج أنساهم الشيطان أن يمنحوه إسماً. حتى جاءت جدته تحمله وتفكر في منحه اسم. فانزلقت ساقها وكسرت حوضها . ارتادت الفراش وأمضت ما بقي لها من عمر عالة على عائلتها وهي تردد بمرارة “لعل الخير يكمن في الشر” إلى أن ماتت.
بعد ذلك وفي تلك الليلة. تنهدت الأم وغمغمت قائلة بصوت خفيض (سأسميك “الفقر”. لِما أفقرنا مجيئك).ومن بعد تلك الليلة راح “الفقر” إسماً لهذا الطفل النحس.
كبر صديقنا “الفقر”. و نمى شارباه. و لم يشفع له ذلك ليفارقه النحس.
أذكر قبل سبع سنوات منحته الحكومة وظيفة “مستخدم” في إحدى مدارس القرية. وحين لاح نهاية الشهر زحف ليستلم راتبه الأول. لكن سرعان ما أغلقت المعارضة الطرق وجميع المؤسسات الحكومية بعد سيطرتها على القرية. ومنذ ذاك الحين وكل من رآه يقول مازحاً “حين قرر “الفقر” العمل انتشرت البطالة”.
واليوم حين أتذكره. لا يراودني سوى أني منه تعلمت أن من مميزات سوء البخت أنه يجبر الناس على اللجوء. فأمام كل تلك الاحباطات. قرر صديقنا “الفقر” الانضمام إلى قوافل الحج إلى برلين. ومنذ ذاك الوقت لم أسمع عنه شيء سوى أنه قال للألمان أن اسمه “فخر” ليعطيه حرف الخاء رونقاً ألمانيا جميلا مثل “فيخته” و “فيلهلم رايخ”. ثم أخذ يروي بفخر قصة اسمه وفخر عائلته به منذ طفولته وليتحول الى قصة نجاح اسمها “الفقر”. عفواً أقصد “الفخر”.