صحيح أن جثة إضافية قد لا تقرر مصير الحرب في بلادنا. لكن نفي هكذا رجل قد يحدث فرقاً. ففي هذه الحرب هناك ما هو أسوء من دفع الضريبة. أو من النزوح في يوم قائظ. أو حتى من الحصار. فبعض ضمائر البشر هي أسوء من كل هذا. ولو معي كل هذا المال الذي أستطيع به شراء ضمير كل رجل دين من الذين خلقتهم هذه الحرب لكان ذلك تجارة رابحة.
سناك سوري – شاهر جوهر
ومن هذا الالتزام غير المرضي عرفت الشيخ “زياد” في الجنوب السوري. رجل دين طيب وحنون. حبذا لو تعرفون كيف يأخذ الأمور ببراغماتية ومرح. إنه ثورة كيفما يتحرك. وهذا المكان بالنسبة له مثل ضميره. خريطة طبوغرافية تتغير كيفما كان.
عرفته كأحد أبناء القرية. ولن أكذب بالقول إنه وافد أجنبي حتى أزيح اللثام عن السوء المحلي. كان أحد أبرز قيادات الصف الأول لأحدى الفصائل العسكرية بين عامي 2014 و2015. وطوال وجوده في القرية أصبح خطيبها الذي لا يخطئ. ورغم أنه ليس لدي سوى تلك اللحظات القصار التي جالستها معه. إلا أن الاغتياب عندي هو ثمن الضيافة. فقد أدهشتني فتاويه الجاهزة لكل فعل يقوم به. فهو رجل متوسط ومبروم مثل كيس تبن. يعرف متى يشلح شاربيه حين يرتدي لحيته.
وحين ينشر عظاته مثل أي رجل دين صاحب ضمير في المسجد من كل جمعة شامخاً برأسه ومجادلاً بصوابيه الحرب وببطولة كل من حمل السلاح. أُصاب بالدونية والعجز. وأشعر وكأنه يقول لي ولجيلي “أنتم الجيل الذي تم وضعه على الرف”. عندها لساني يتحول إلى قطعة لحم مشلولة. فأكاد أجزم أن المسيح إن عاد ينبغي أن يكون معه حجر حتى يطحن هذه الرؤوس الشامخة بالنبيذ والتعصب.
اقرأ أيضاً: “البعث” يدعو رجال الدين لمحاربة الفساد
وهنا سأذكر حادثة واحدة فقط. هي كل هذا التلوث في هذا العالم. فحين جاء في ذاك اليوم كانت روحه رقيقة جداً. صعد على المنبر. جدل بيديه الهواء كعادته في الوعظ. وراح يتحدث كيف أزاغت البدع هذا الدين. وقصد في حديثه “مخاطر تعظيم القبور”. لأن ظاهرة وضع قطع الرخام على القبور التي شهدتها قريتي في سنوات الحرب قد “استثقلته باعتبارها من عظائم البدع”. أقفل خطبته بالهِداية للناس والدعاء لهم. مسح دموعه وحمل فأسه واتجه إلى مقبرة القرية. مستغلاً سلطته ونفوذه في الفصيل العسكري الذي ينتمي اليه في (دين قراطية) واضحة .
وبما أن الحي أبقى من الميت. وأن المبذرين إخوان الشياطين. كان جيداً عليه في مثل هذه الظروف أن يعيش حياته وبلا تبذير من خلال (تدوير القبور). فمطبخه الجديد تلزمه بعض الرفوف. وعليه جميع النسوة في القرية أعجبن بغيرة لمطبخ زوجته المزين بقطع الرخام النفيسة .أما عن الرجال فيتحدثون عن استقباله – والدمع يكاد يخرج من مآقي عيونهم – حين أولَمَ لهم شيخهم بمناسبة دخوله بيته الجديد كما تجري العادة في القرية. استقبلهم وكل من زاره لازال يتحدث لليوم عن كرمه وعن واجهة بيته الملبّسة بأحجار الرخام وبشواهد القبور. حيث علا مدخل البيت قوس كبير مرخّم وقد نقشت واجهته بعناية وبعبارة “هذا من فضل ربي”.
اقرأ أيضاً: الروبوت بيير: الكاهن الآلي قد يشكل خطراً على رجال الدين في سوريا
وبعد سنين قلائل. ووفق هذا النهج جنى ثروة كبيرة. ولم يكن لينقصه في الحياة سوى الحب. فتفتحت عواطفه حين أعجبته مدرسة رقيقة وناعمة. ومنذ رآها وهو يعاني ذاك الإحساس المعروف جيداً لمن هم بوضع العبودية. ذاك الاحساس الذي لا يعيه سوى من سقطوا في الحب. فشكله حين رمقها خلسة أثناء زيارته لابنه في الصف في ذاك اليوم وهي تغني للطلاب أغنية جعلت روحه ترقص. ورغم أن الغناء والموسيقى قد منعا . وحصة الموسيقى تحولت إلى الرسم . إلا أن سحرها أوقع بالشيخ الذي لم يأبه لمخالفتها وأعجب بها وتزوجها من مبدأ “إن الله يهدي من يشاء” وأن الله بعثه للستر عليها ولهدايتها.
وحين اتهمه فصيله بالاختلاس. ترك لحيته في مقر الفصيل. وعاف زوجته القديمة في تنكّر للعِشرة. وحمل نفسه مع من أحب واتجه إلى “بلاد الكفار”. ويقال إنه قبل ذلك أجرى مصالحة وطنية مع الحكومة السورية. لينتقل بعدها إلى “برلين” ليتفرغ بشكل كامل للأعمال الأدبية والتغريد على “تويتر” من أحد ملاهي العاصمة الألمانية عمّن خانوا ديننا وبلادنا.