طرحت صحيفة البعث في مقال رئيس تحريرها عبد اللطيف عمران الأسبوع الماضي سؤال الديمقراطية بين “الصين وأميركا”، معتبرةً أن السؤال يأتي في معمعان نقلة مؤلمة يعيشها الفكر العالمي المعاصر ليعبر عن أزمة معرفية.
سناك سوري – دمشق
ورأت الصحفية أن قضية الخلاف بين الصين وأميركا والإدعاء بأن همها الديمقراطية هو إدعاء زائف، وأن العالم يعرف أن القلق الأميركي هو من التجارة والتكنولوجية الصينية.
بحسب المقال المنشور في الصفحة الرئيسية فإن أغلب شعوب العالم تعرف أن الولايات المتحدة كيان غريب النشأة، ودولة ليست عريقة أبداً، فقد تأسست بعد إبادة السكان الأصليين، ووفق مفهوم وسلوك إبادي، واستيطاني، وإحلالي عنصري، استلهمه فيما بعد الصهاينة في تأسيس كيانهم في فلسطين (المعنى الأمريكي لإسرائيل)، كما تعرف هذه الشعوب أن فهم الأمريكان للديمقراطية وللحرية فهم بائس، قائم على ازدواجية المعايير وعلى الانتقائية والوظيفيّة والبراغماتيّة، بعيداً عن المعرفيّة، والعلميّة والأخلاقية.
كاتب المقال قال إن هذا ليس رأياً سياسياً ولا حزبياً، وفيما يلي حقائقه بمتخيّر من الوثائق العديدة وبما يؤكد أن رد الخارجية الصينية على القمة الافتراضية للديمقراطية التي دعا إليها الأمريكان في 9-10/12/2021 هو ردّ علمي وواقعي صحيح.
اقرأ أيضاً: البعث يوقع اتفاقاً مع وفد من جمهورية دونيتسك
فيما يلي تتمة المقال كاملة كما جاءت في الصحيفة بعدد 05/01/2022:
منذ قرنين مضيا من الزمن لاحظ مفكرو العالم أن الأمريكان ينتصرون بشكل فاضح للفلسفة الذرائعية في النظرية والتطبيق وأن شريحة الانتلجيسا (المثقفون والمخابرات) لديهم تتبنّى مبدأ الغابة تبرر الوسيلة، ولعل المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل أوضح هذا بشكل علمي في كتابه الصادر بمجلدين عام 1840 بعنوان (الديمقراطية في أمريكا) وملخّصه: (إن الديمقراطية – هناك – يمكن أن تكون مستبدة مثل الديكتاتورية عندما يقرر الناخبون أن يصوَّتوا لأنفسهم بالمال).
ولم تقف (الديمقراطية الأمريكية) عند هذه الخصائص فقط، لأن مصادرها في الأساس مبنية فلسفياً على يد فلاسفة أوروبيين قصدوا الولايات المتحدة لأنهم وجدوا فيها التربة الصالحة للأفكار والاستراتيجيات التي تُبنى على النهب والاحتلال والحصار والعقوبات وإسقاط الحكومات، والأهم من ذلك إهمال الخيارات الشعبية الحقيقية والحرّة لبناء الوطن والإنسان، فأتى إليها هؤلاء المفكرون ليأصّلوا هذا السلوك القائم على الفردانية والقوة والهيمنة، وكان منهم مثلاً كارل شميت الذي ترك ألمانيا بعد انحيازه إلى النازية وقصد أمريكا وصار أحد الممهّدين لطروحات المحافظين الجدد ولعب في صوغ السياسة الخارجية الأمريكية، ومن كتبه: (البرلمانية والديمقراطية) – و(الرومانسية السياسية)، ومنهم ليوشتراوس الذي أتى من ألمانيا أيضاً وكتب في فلسفة التفوّق والاضطهاد، وصار الملهم لإيديولوجيا المحافظين الجدد وألّف: (تاريخ الفلسفة السياسية) – و(الطغيان)، ومنهم بريجنسكي الذي قصد أمريكا من بولندا وألّف: (رقعة الشطرنج الكبرى) عام 1997، والعبارة الثانية من عنوان الكتاب تدل على مضمونه وهدفه: (الأولوية الأمريكية وضروراتها الجيواستراتيجية)، وكذلك فعل فوكوياما الياباني الأصل في عمله وفي مؤلفه: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)ونُشر في 1992 وفيه يرى أن سقوط الاتحاد السوفييتي يمثّل نهاية التاريخ وبداية زمن جديد على شعوب العالم أن تتسابق لحجز مقعد في قطار الزمن الأمريكي، وفوكو ياما عدو لدود للشيوعية وللفكر التقدمي والمتمثل في تيار (ما بعد الحداثة) الذي تقدّمت فيها النزعة الإنسانية فخاض سجالاً تناقضياً مع أبرز أعلامه المفكر الفرنسي جاك دريدا، ما مهد إلى تقويض تيار (ما بعد الحداثة)، وسطوع تيار (بعد ما بعد الحداثة) الذي استغل بحرفيّة وتدميرية التكنولوجيا الرقمية، وبعده صموئيل هنتنغتون في كتابه (صراع الحضارات) في 1996 وفيه يرى أن الشعوب مقبلة على صراع حضاري متمثّل في التباينات بين أتباع الكاثوليكية الغربية من جهة واتباع الإسلام والأرثوذوكسية والبوذية والكونفوشيّة والهندوسية من جهة ثانية، وقد جابهت الشعوب هذا الطرح وكذلك الأمم المتحدة وبدأت الدعوات والندوات إلى حوار الحضارات ردّاً على كتاب هنتنغتون… حتى وصل الأمر بمنظّر حزب العدالة والتنمية أحمد داود أوغلو لإصدار كتابه (العمق الاستراتيجي) في 2001 وفيه ينعى أن عوامل القوة الثابتة لتركيا لم تتطور بعد سلب لواء اسكندرون، لذلك نجد جرائم تركيا التوسعية في سورية والعراق وليبيا وأذربيجان…، واستثمارها بدماء المسلمين الإيغور وغيرهم، وهذا يوضّح بالوثائق المستند الفكري والفلسفي الخطير لسياسات المحافظين الجدد والتي لا يزال بسببها نزيف الدماء والاضطراب والقلق مستمراً منذ أكثر من ثلاثة عقود في أربع جهات الأرض، بما يجعلها أكثر دموية وإشكالية وحرائقية من النازية التي لم تبق في الحكم أكثر من اثنتي عشرة سنة… وبالمقابل لم يقصد الإدارة الأمريكية أحد من فلاسفة الشرق وحكمائه.
في هذا السياق كانت طبيعياً أن تكون قمة بايدن الأمريكية للديمقراطية عاراً وعيباً فكرياً وسياسياً وأخلاقياً، فغابت عنها نصف شعوب الأرض، ولم تدعَ إليها القوتان العظميان الصين وروسيا، فكانت ديمقراطية القمة مرادفاً للغطرسة الأمريكة، وكان طرح قضايا: الاستبداد – الفساد – حقوق الإنسان، فيها طرحاً سياسياً محضاً بعيداً عمّا يعزز الحوار والسلم والصداقة بين الشعوب، تؤطّره الأفكار السابقة لمنظري الهيمنة وأحادية القطب، ومن ليس معنا فهو ضدنا، فركّزت بشكل سافر ووقح في هجومها الوظيفي على التجربة الصينية في هذا المجال.
كان الرد الصيني قوياً واضحاً ومقنعاً، إذ فضح (حال الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية) حيث (صارت الديمقراطية سلاحاً شاملاً تستخدمه الولايات المتحدة للتدخل في الدول الأخرى ولإشعال الثورات الملوّنة، ولتأجيج الانقسامات الإيديولوجية الموروثة منذ الحرب الباردة ما يتطلب مواجهة خطر تصدير الديمقراطية كنموذج خارجي جاهز، ومقاومة كل أنواع الديمقراطية الأمريكية الزائفة والمريضة)، كما أوضح رئيس قسم الدعاية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني لماذا (لا يريد الشعب الصيني إقامة النظام على شاكلة النظام الأمريكي، ولا تفكر الصين في تعميم أنموذجها السياسي والإيديولوجي على الشعوب الأخرى).
والحقيقة أن أمريكا لم تعد تخشى نشاط الصين التجاري والتكنولوجي ومبادرات مثل الحزام والطريق فحسب، بل هي تخشى تطور العقل الصيني في العلوم الاجتماعية والسياسية قبل التقنية، لذلك أطلقت مبادرة (إعادة بناء عالم أفضل) لمواجهة الطموح الصيني المتصاعد والمشروع، وفوراً سفّه مقال في مجلة Foreign Affairs هذه المبادرة بشكل علمي وواقعي، وفي هذا إشارة إلى أن صوت الحق لا يموت في المجتمعات الغربية فهناك الكثير من المفكرين والتيارات الشعبية التي تناهض توجهات المركزية الغربية بسوطها الصهيوأمريكي، فقد نقد أحد المفكرين الغربيين تلك المبادرة الأمريكية في المجلة نفسها ورأى بأنها توجّه أو (مفهوم) يؤصله الصقور الجدد المتشددون بالممارسة الابتزازية، كما أنها ضبابية وقريبة من الزيف لأنها ليست معرّفة تعريفاً محكماً (كمصطلح).
إنه سجال ليس من الضروري أن يسفر عن نظام عالمي جديد مستقر، فتاريخ العلاقات بين الشعوب منذ القديم يبين استمرار السعي إلى نظام جديد أو متجدد، إلا أن الغطرسة الأمريكية المستثمرة سلبياً بطرح الديمقراطية الزائف لن تنتصر، ومن الواضح أن أحرار العالم وشرفاءه ينحازون بقوة إلى الرد الصيني السياسي والثقافي والإجتماعي.