الالتزام كقيمة أخلاقية .. مخالفتها قد تصل للخيانة _ ناجي سعيد
هل يكفي أن تكون مع الآدمي آدمي ومع الأزعر أزعر؟
يبادرني صديقي دائمًا حين ألفت انتباهه إلى السمنة التي تنال منه بوعدٍ أنه سيبدأ “الريجيم” اعتباراً من الاثنين المقبل لكنه لا يطبّق أي التزام بـ”الريجيم” سوى تكرار عبارة الوعود التي لازمته إلى حدٍّ أبعد عنه الالتزام بقضايا أخرى في حياته.
سناك سوري _ ناجي سعيد
فلو سألنا عن السبب الذي يؤخّر أي شخص عن “التزام” معيّن. قد يبدو للوهلة الأولى أن الأمر بسيط (بسيطة ما صار شي). لكن لو تعمّقنا في الموضوع. فإن مصطلح “الالتزام” يُعتبر من القيم. والقِيم، تنمو وتنشأ مع الإنسان.
فبحسب الفلاسفة والعلماء. فإن طبيعة الإنسان الخيّرة هي الأساس، يطرأ الشرّ والعنف عليها، إذا ما لم يتوفّر لها بيئة حاضنة مُفعمة بالقِيم الإيجابيّة.
وبحسب قراءاتي وخبرتي في التربية اللاعنفيّة، فإنّ القيم هي منظومة، تكون كوحدة متكاملة تنمو وتضمحلّ متناسقة. فيستحيل أن يكون هناك حالة، كما كان يقول لي صديقي “عصام”: «أنا آدمي مع الأوادم، وأزعر مع الزعران». فالقيم ليست تلفازًا، يبثّ قنوات تعرض برامج مُسلّية. والتحكّم (ريموت كونترول) بين يديك إن لم تعجبك قيمة ما في موقف تواجهه، بإمكانك تغيير القناة.
مخالفة الالتزام قد يصل للخيانة
ولو اطّلعنا على المعنى اللغوي لمُصطلح “التزام”، لوجدنا: “تعَهُّد، ذِمَّة، ضَمَانَة، عَهْد، كَفَالَة، مَسْؤولِيَّة، مِيثَاق، وَاجِب، وَثِيقَة، وَعْد، إِرْتبَاط”.
ومن المؤكّد أن هذا الالتزام، كقيمة، لا تظهر في الجينات المتوارثة بيولوجيًّا. فالقيم التربوية، إنسانية بحت وتحتاج إلى بيئة حاضنة كي تنمو. وقد قالها الرحابنة في إحدى مسرحياتهما: «ابن البويجي بويجي، وابن الطبيب طبيب» وهذه لفتة “رحبانية” إلى أن التوارث يطال مواضيع لا علاقة لها بالمنحى البيولوجي.
فلم يقولا مثلاً: «اللي منخارو كبير» بل ذكروا مهنة تدلّ على مستوى اجتماعي معيّن. وبالتالي فإنّ ما يؤثّر بشكل مباشر على المستوى الاجتماعي، هو المسار التربوي للعائلة.
فالعائلة التي تعيش قيمةً ما، وتعمل على تطبيقها، بكلّ أحداث يوميّاتها. إلا أن المشكلة التي أواجهها، بأنّي مُلتزم مثلاً: بالوقت.وقد اعتدت وعوّدت نفسي على الحضور في الوقت تمامًا، لا بل قبل موعدي بقليل.
ومن جهة أخرى أخفي انزعاجي الداخلي الشديد، مُقابل استخفاف الأخرين بالتزامي بالوقت. لا يُدرك الآخرون أن المعاني المُضادّة لمصطلح التزام: (حَنَثٌ، خذلانٌ، خَفَرٌ، خَيانَةٌ، نَكْثٌ، نُكُوثٌ)، وهذه المصطلحات تُطلق على “قليل الأخلاق”.
فمن ينكث العهد هو خائن للصداقة مثلاً. والأخطر هنا من لا يلتزم بحبّه وإخلاصه لوطنه/ يُدعى خائن، ويُجرّم. وبالتركيبة التربوية المُتعلّقة بمنطومة القيم، من يستسهل النكث بعهد أو وعد لصديق أو لأيٍّ شخصٍ كان، فمن السهل عليه الوقوع بحفرة “الخيانة”.
من أين يأتي الاعتياد؟
والإدمان على عادةٍ ما، هو التزام، لكنّه سلبي. بمعنى آخر وأدقّ، فعلم الجريمة يؤكّد، أن بداية القتل عند المجرم صعبةٌ جدًّا، ولكنّ القاتل يعتادها وتصبح سهلةً في المرّات التالية. وهذا من الناحية البيولوجيّة، متشابه وظيفيًّا إذا ما قرأناه من ناحية وظائف الدماغ.
لكنّ الرادع في حال انحرف الالتزام نحو الإدمان، وبحسب نصائح الإمام الغزالي “1058-1111 م” فإن التربية الخُلقية هي الاعتياد والممارسة فترة طويلة منذ الصغر حتّى تترسّخ وتصبح عادة تصدر عن المرء من غير تفكير ورويّة. وقد التقى معه بالفكرة أرسطو وروسّو وغيرهم.
وبما أنّ الالتزام تربية، يلفت الإمام الغزالي إلى الطريقة: «آخرون يركّزون على أن التربية الخلقيّة تعني تلقين المبادئ الأخلاقيّة وإلقاء دروس في علم الأخلاق..» وهذا ما لا يلتقي مع ما قرأت في التربية الحديثة التي تعتمد على مبدأ “التعلّم” بدوافع ذاتيّة واقتناع تام بالمبادئ التي تحترم الذات والآخر.
لذا، لا يُقنعني الآن صديق المراهقة “عصام”: «مع الآدمي آدمي ومع الأزعر أزعر» فالقيم الإيجابيّة ترخي بساطها على مساحة الذات ولا تستقبل أي حشرة مؤذية. وينطبق على منظومة القيم، مبدأ الكيان الواحد الذي لا يساوم أو يتنازل عن ذرّةٍ من قِيَمِه. وقد قيل بالثقافة الشعبية مثلاً يصلح هنا: «اللي بيسرق بيضة بيسرق جمل».