عن الثمانينية التي جسدت معنى “الله يساعد يلي مالو حدا”!
حتى السائق تأثر بظروفها الواضحة دون شرح ورفض تقاضي أي أجرة.. “لسه الدنيا بخير”!
سناك سوري-رحاب تامر
كانت تترنح أمام الرياح تماماً كما سنين عمرها في مهب القدر، تبدو سيدة ثمانينية جميلة الوجه برغم التجاعيد الكثيرة، خضراء العينين بما يمنحك بعض التفائل استناداً إلى طاقة الأخضر، تلك طاقة لم تستطع الاستفادة منها وهي تميل يسرة ويمنة محنيةً رأسها الذي يغطيه شال أبيض لتدرء القليل من برد الرياح.
رأيتها ومضيت باتجاه سيارة الدوام كما العادة في كراج الانطلاق خارج “اللاذقية”، سرعان ما حدثت زملائي بالأمر كأني أريد أن أبعد شبح تأنيب الضمير عني لكوني تركتها أو ربما أردتهم أن يتقاسموه معي، وفي غمرة كل شيء استعدت منطقي ونزلت أبحث عنها، هو أمر لم يطل كثيراً أمام بطئ تقدمها في مواجهة الرياح، ودار بيننا الحديث التالي:
-لوين رايحة يا خالة.. ساعدك بشي؟
-رايحة على مشفى تشرين يا بنتي ليكي إيدي كيف عمتهز
دعوتها إلى الذهاب معنا في السيارة التي تمر من ذات طريقها، وهي وافقت بكل لطف.
عانت قليلاً في الصعود إلى السيارة قبل أن تنجح، وهنا بدأنا نسألها عن سبب مرضها لتجيب أن خبر “استشهاد” ابن شقيقها الذي ربته منذ كان صغيراً كسر ظهرها، وتسبب لها بانهيار عصبي أدى لإصابتها برجفان في أطرفها، وهي ذاهبة إلى المستشفى لتلقي العلاج.
في خضم ذلك رن جوال من النوع القديم كان بحوزتها عبر أكباس النايلون التي تحملها، طلبت مني أن أتناوله لها، الاتصال الذي تلقته كان من ابنتها التي أخبرتها أنها تستعد للحاق بها في المستشفى، فهي كانت تنتظر لتؤمن أبنائها إلى مدارسهم حتى تستطيع الذهاب مع والدتها إلى المستشفى، أقفلت السماعة وتوجهت إلينا كأنما أدركت أننا نلوم أبنائها على تركها، لتخبرنا أنها تمتلك ثلاثة أولاد أحدهم عسكري في “السويداء” والأخرى ابنتها التي ستلحق بها، والثالث هو ابن شقيقها الذي ربته ومات في المعارك قبل مدة قصيرة.
وصلنا إلى أمام المستشفى لكن كان لزاماً على السيدة التي أعتذر عن إيراد اسمها احتراماً لها أن تقطع الشارع وهنا احترت في أمري لكون الأمر خطراً عليها، قبل أن أجد تاكسي أجرة قريب ناديته وطلبت منه أن يوصلها إلى الجهة الأخرى وحين أردت أن أناوله الأجرة قاطعتني يدها بثبات: “معي مصاري يا بنتي الله يوفقك”، ترددت لم أكن أريد أن أجرحها، لكن السائق الطيب قال لي لن آخذ منها أي أجرة، وكأنه كان حاضراً معنا يسمع حكايتها.
انتهى الأمر وراح كل منا في سبيله، كنت أحدث نفسي بالكثير، أستذكر أحاديث كبار السن “الله يعين يلي مالو حدا”، أستذكر أيضاً في مخيلتي كيف أنهم يريدون تزويج المرأة كي لا تبقى وحيدة، لكن هذه السيدة متزوجة ولديها أولاد وهي وحيدة، تذكرت أيضاً أني لم أخسر أي جهد وأنا أساعد شخصاً محتاجاً، الحاجة قد لا تكون دائماً مادية، نستطيع بكل بساطة أن نقدم مساعدة واهتمام لشخص ستعني له الكثير، أولسنا الذي نقول دائماً “لسه الدنيا بخير”، فلماذا لا نكون جزءاً من تحقيق هذه المعادلة بدل تجسيدها بتلك العبارة.
أخيراً، لست الأم “تريزا” ولا شخصاً فعل المستحيل، بل مجرد أم وابنة، قد اضطر يوماً ما لأن أكون مكان هذه السيدة وسأتمنى لو أن أحداً يساعدني، وأنتم أيضاً قد تضطرون.
اقرأ أيضاً: منزلي في “حرستا”.. لم يبقّ منه سوى كأس ماء بارد أنعشني رغم المرار!