الرئيسيةرأي وتحليل

سوريا وخطر الانقطاع العلمي – أيهم محمود

تحطيم المجتمعات وتحييدها… مرحلة العجز

سناك سوري- أيهم محمود

هناك خط دقيق يفصل بين قدرة أي منظومة على التعافي وبين دخولها في مرحلة عجز دائم أو مديد، ما جرى في المنطقة منذ أكثر من ثلاثين عاماً وحتى الآن هو تحطيم مجتمعات أو تحييدها على الأقل لمدة طويلة من الزمن، لم يكن الهدف تعطيل جزء منها أو شل قدراتها في قطاعات عسكرية أو أمنية معينة بل تحطيمها كلياً علمياً وثقافياً واجتماعياً بحيث لا تعود إلى دائرة الفعل إلا بعد مدة زمنية طويلة هذا إن استطاعت التعافي والعودة للحياة وتجاوز الاستقطابات الداخلية المدمرة التي تدفعها للتشظي والتفكك.

لقد فقد العراق في حروبه الطويلة أهم ثرواته على الإطلاق وهي العقول والخبراء الذين تم تهجيرهم وقتلهم في الحروب الداخلية لتسود التيارات الدينية في الداخل والتيار الديني في “إسرائيل” وهذه نقطة اتفاق رئيسية بينهم مثل نقاط الاتفاق الواضحة والجلية بين إيران وتركيا، لم يستطع العراق التعافي حتى الآن حتى بعد انتهاء الحرب ليتحول من بيئة مصدرة للعقول والخبرات إلى بيئة مستوردة لها في قطاعات حيوية كان متفوقاً فيها بشكل مميز على مستوى المنطقة على الأقل، تجربة العراق قابلة للتعميم ويبدو أنها تستعد لتبتلع كل الهويات في المنطقة وتحولها من حالة الفعل إلى حالة العطالة والانتظار على أقل تقدير.

اقرأ أيضاً: سوريا_ الفجوة في سوق العمل والاختلال الجندري

لم يعد الطعام والشراب في عصرنا الحديث معيار الحياة الأوحد، لم يعد الغذاء مقتصراً على ما يحفظ جسدنا بل هو أيضاً ما يحفظ عقولنا من الصدأ والتجمد ويمنع ثقافاتنا من الموت أو التراجع. إذا استمرت حالة الفقر والجوع في سوريا وإذا استمر عجز الطلبة عن شراء الكتب والكمبيوترات وأجهزة الاتصال بالإنترنت سوف نبدأ باللحاق بمصير العراق بعد خمس سنوات من هذا التاريخ وهي المدة الكافية للانقطاع العلمي وتخريج أول دفعة من الاختصاصات العلمية وهم جاهلين بالتقنيات والمعايير الحديثة وغير قادرين على مواكبتها بسبب الفقر ونقص الخدمات الأساسية وأولها الكهرباء، وهكذا يكون ثاني بلد قادر على إحداث فرق في المنطقة قد تدمّر فعلاً والدور القادم على مصر القلعة الأخيرة قبل سقوط المنطقة كلها في جحيم الجهل، يتعدد إغواء الدول للدخول إلى هذا الفخ المميت، كان فخ العراق الكويت أما مصر فأفخاخها متعددة تناسب حجمها ومكانتها الإقليمية.
تتقاطع المؤثرات الخارجية في المنطقة مع عجز منظوماتها الاجتماعية عن إحداث تغيرات حقيقية مستدامة في بنية مجتمعاتها مثلما يتقاطع وهن الجسم وضعفه مع غزو الجراثيم له، الاستقرار الوهمي الكاذب لهذه المنظومات هو كبت أعراض الصدوع والتشققات فيها في انتظار زمن الانهيار الكلي، معالجة التشققات في الزمن الحقيقي يمنح المجتمعات الخبرة في ملاحظتها مبكراً ورتقها قبل استفحال أمرها، رتق الشقوق هو تدريب للعقل الجمعي على تجاوز نقاط ضعفه ومكامن كعب أخيل فيه، العوالم الآمنة الظاهرية تقود إلى البلادة الفكرية وإلى عجز المجتمعات عن توليد المبادرات الذاتية التي تحمي الجسد في حال انشغال بنيته المناعية في الدفاع عنه أو في حال تصدعها المؤقت نتيجة غزو جراثيم ضارية للجسد، يجب إصلاح البنى الهرمية الصارمة التي اعتاد عليها سكان المنطقة تاريخياً والجنوح نحو اللامركزيات الفاعلة النشطة التي تتكامل تحت اسم واحد وأهداف مشتركة، فلا يمكن دخول التاريخ الحديث بهياكل متصلبة غير قادرة على المناورة والتحرك بفعالية عالية.

اقرأ أيضاً: حاجة السوريين إلى عقد اجتماعي جديد- أيهم محمود

الصراع الداخلي ممكن دوماً في حال وجود هوامش لهذا الترف! لكنه انتحار أكيد عندما يستهلك كل سكريات ودهون الجسد ويبدأ بهضم البروتين، هنا يهضم الجسد نفسه ومسألة بقائه مسألة وقت، لا عذر لأي من مكونات الجسد عند الوصول إلى هذه المرحلة الخطرة، هي مسألة وعي أن يعرف كل إنسان حدود طاقة احتمال جسده الخاص ويتوقف قبل عبور الخط الفاصل بين التعافي واللاعودة، لا يجب المجاملة في هذه النقطة، يمكن احتمال انخفاض جودة الغذاء لكن لا يمكن لأي مجتمع على الإطلاق احتمال انخفاض جودة التعليم وانخفاض جودة الأمل بوجود غد يستطيع استيعاب الجميع فيه، صرخت الأم الحقيقية عندما أمر القاضي بقطع الولد المتنازع عليه إلى قسمين، قالت أعطوه لها لكن لا تقتلوه، ربما علينا أن نأمل أن يكون الجميع هذه الأم التي ستصرخ حتى قبل أن ترى السكين تقترب من جسد الطفل، في اللحظات التاريخية الفاصلة قد يكون المنتصر هو من يرى هذا الطفل رجلاً وهو بالتأكيد لن ينسى أمه الحقيقية التي صرخت وغالبت متطلبات صراعها لتحميه، الاستثمار التاريخي والأخلاقي ممكن دوماً حتى في اللحظات الحرجة الفاصلة بين الوجود والعدم، بين أن نكون أو لا نكون، وهذا هو السؤال الرئيسي والملّح في كل أزمات المنطقة.

اقرأ أيضاً: مائة ليرة سورية دخولية منزل! أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى