الجزيرة السورية واستعادة الحياة من براثن العدم- حسان يونس
سوريا التاريخية…. الجزيرة السورية تلال التاريخ
سناك سوري – حسان يونس
تتزامن الجهود الإثيوبية لإكمال بناء سد النهضة، وملء خزانه الذي يهدد مصر بكارثة على كافة الصعد بشكل غريب ولافت، مع السياسات التركية التي خفّضت كمية المياه العابرة في نهر الفرات منذ شهر حزيران الفائت، ما ينذر بكارثة من حيث توفر مياه الشرب والري والطاقة الكهربائية و….
ليس مبالغة أن نقول، أن فجر الحضارة انبلج على ضفاف الفرات ودجلة والنيل، ذلك أنه بتتبع التلال الأثرية في محافظة الحسكة نجد أنفسنا نعود عدة آلاف من السنين في عمق التاريخ، مثلا، تل مبطوح، غرب مدينة الحسكة الذي يعود إلى الفترة الأكادية في الألف الثالث ق.م، وتل شعير شرق مدينة القامشلي، يعود إلى الألف الثالث والثاني ق.م، وتل شاغر بازار (حطين)، 46 كم شمال مدينة الحسكة يعود إلى فترة الملك البابلي “شمسي أدد” في الألف الثاني ق.م، وأما تل حلف الواقع على بعد 3 كم جنوب غرب منطقة رأس العين، فيعود إلى الفترة الآرامية، ويستمر خلال الفترة الآشورية الحديثة، والفترة الإخمينية والهلنستية، وتل بيدر الذي يبعد 35 كم شمال مدينة الحسكة في القسم الغربي من مثلث الخابور يعود إلى منتصف الألف الثالث ق.م، بينما تل براك الواقع على بعد 40 كم شمال شرق مدينة الحسكة يعود إلى النصف الأول من الألف الرابع قبل الميلاد، وتل موزان، 20 كم غرب القامشلي، بالقرب من عامودا يعود إلى الفترة الميتانية، في النصف الثاني من الألف الثالث ق.م، هذا عدا عن تل الحسكة الأثري، المتوضّع وسط مدينة الحسكة، على الضفة اليسرى لمجرى نهر الخابور، بعد 1700 متر من ملتقى نهري الخابور والجغجغ، والعائد إلى الفترة الآشورية الحديثة، بحسب “عبد المسيح بغدي”، رئيس دائرة آثار الحسكة.
اقرأ أيضاً: شعوب البحر والعثمانيين الجدد- حسان يونس
وفي مقابل كانت الفتوحات الإسلامية هي الباب العريض، الذي دخلت من خلاله تركيا العثمانية إلى منطقتنا وتحديدا في زمن الخليفة المعتصم العباسي ، 842 م وما تلاه، ولم تكن هذه العثمانية من الحضارة في شيء، حين كانت المراكز الحضارية تصطف على ضفاف دجلة والفرات كحبات اللؤلؤ بدءاً منذ الألف الرابع ق.م.
في فترة الغزو المغولي القادم أيضاً من آسيا الوسطى في القرنين الثالث والرابع عشر، شهدت منطقة الجزيرة السورية انقطاعاً عمرانياً وافتقاراً لأسباب الحياة، بحسب الباحث في جغرافية وتاريخ الجزيرة السورية، “مهند الكاطع”، وفي نهاية العصر العثماني عادت الحياة إلى هذه المنطقة، فمدينة الحسكة أعيد بناؤها انطلاقا من ثكنة عسكرية عثمانية تعود إلى عام 1907م، وفي عام 1914- 1915م ارتكبت السلطات العثمانية، وعطفاً عليها السلطات التركية القومية مجازر بحق السريان والأرمن، ذهب ضحيتها مئات الآلاف، وكانت الجزيرة السورية، والحسكة تحديداً مسرحاً لهذه الارتكابات، فسكن فيها بعض الفارين من هذه الإبادات، ومن ثم توافدت إليها عشائر كردية وعربية.
اليوم تعيد السلطات التركية بعقليتها العثمانية إكمال ما بدأته عام 1914م، ذلك أن حصار الحسكة مائياً من خلال منع تدفق مياه الشرب من محطة “علوك” القائمة في رأس العين لا يقل فظاعة عما ارتكبته في جرائم إبادة الأرمن والسريان.
اقرأ أيضاً: مياه الحسكة.. لم تعد إلى مجاريها_بلال سليطين
وفقا للقاعدة الشهيرة في علم النفس، يستفز مسرح الجريمة ذاكرة المجرم ويحرّضه على إعادة ارتكابها، ويبدو أن الحسكة تستفز الذاكرة الإجرامية لدى حملة الراية العثمانية في تركيا، لكن إلقاء المسؤولية على هؤلاء العثمانيين الجدد فقط هو أحد جوانب الموضوع، فالتاريخ لا يعصم أحدا من الانحطاط وفقدان عوامل الحضارة، وهذه المقارنة تطرح الإشكالية التي نحن بصددها، وهي إشكالية تفتح الباب أمام التساؤل الكبير حول صلتنا، نحن السوريون الحاليون، بكل التراكم الحضاري في منطقة الجزيرة، وحول صلتنا وموقفنا من التاريخ المأساوي في هذه المنطقة.
كما تفتح هذه الإشكالية الباب أمام إجابة كبيرة نحن في أمس الحاجة لها، وبالأخص أولئك المشككين بآفاق الحل في سورية وإمكانيات عودة البناء والحياة، ذلك أن منطقة الجزيرة استعادت الحياة من براثن العدم عدة مرات، منذ الألف الرابع ق.م، وهي تحمل في طيات تلالها وضفافها إمكانيات العودة المتجددة، ربما كان طائر الفينيق قد نشأ في الجزيرة السورية على ضفاف دجلة والفرات، قبل أن يغادر إلى جبل صافون على الساحل السوري.
اقرأ أيضاً: الإلهة الأم في مواجهة الأحادية الذكورية- حسان يونس