الترحم على الميت يكاد يكون جريمة حرب
لقد شوهتنا الحرب حتى بات "الترحم" على الموتى "جريمة"

“الله يرحمه/ها” كلمتان تعبران عن الترحم على الميت ممكن أن يوديا بقائلهما أو كاتبهما إلى مستنقع الشتم والتخوين والقدح والذم هو والمترحم عليه في أيامنا هذه لمجرد أن يكون “الميت” من أصحاب المواقف أو الرأي المختلف.
سيل من الشتائم والتخوين تغص بهما صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وعلى أرض الواقع عند كل وفاة لشخصية عامة لها موقف سياسي واضح تجاه الأزمة السورية.
سناك سوري – بلال سليطين
عشرات ومئات الأشخاص تعرضوا لهجمات قاسية لأنهم فقط كتبوا كلمة “الله يرحمه/ها” بعضهم أُجبِر على حذف “الترحم” خوفاً من أذية قد تلحق به والأمر هنا ينسحب على مختلف الجغرافيات التي يتواجد فيها السوريون في الداخل أو الخارج. على اختلاف المواقف السياسية للمتوفي.
بعض مانعي الترحم ممن نصبوا أنفسهم أولياء على ألسنة السوريين وأقلامهم يبررون مواقفهم بأن هؤلاء الأشخاص ارتكبوا أخطاء في حياتهم أو في مواقفهم من الصراع. وهي بالمناسبة أخطاء عند البعض وبطولات عند البعض الآخر. ولا يغفر لهم علمهم ومعرفتهم أنهم أخطأوا أو لم يوفقوا في بعض مواقفهم. فشرطة المواقف تحاصر السوريين من كل جهة وإذا لم يغفروا هم ليس بمقدور السوريين “الترحم” دون مضايقات.
كان غاندي واحداً من ألد أعداء البريطانيين خلال فترة احتلالهم للهند. ومع ذلك فإن البريطانيين وضعوا له تمثالاً إلى جانب تمثال “تشرشل”. تمثالاً عبروا من خلاله عن احترامهم له رغم أنه أذاقهم الويل في “الهند” وأجبرهم على توقيع معاهدة مذلة.
اللافت في الأمر أن الشرطة لا ينشرون على صفحاتهم مواقفهم إلا فيما ندر. وإنما يلاحقون من ينشر على صفحته ويشنون حملة عليه كالذباب الإلكتروني “مابتخجل تترحم عليه/ها. مو عيب عليك تترحم عهيك واحد/وحدة. الله يغمقله/ها… إلخ” من المفردات شديدة القساوة وشديدة انتهاك حرية التعبير وحق اتخاذ موقف إنساني أو أخلاقي في الموت. وبالمناسبة من وصفناهم بالشرطة هم أيضاً ضحايا الحرب اللعينة.
تخيل أنك درست على مقاعد الدراسة مع شخص آخر وكبرتما معاً وتبادلتما المواقف الأخلاقية والاتكال على بعضكم بعضاً وفي داخلكما من العواطف والذاكرة مايكفي لفيض من الحب. وفي مرحلة معينة كل واحد منكما انخذ موقفاً سياسياً من الاحداث في سوريا. وبعد فترة من الزمن مات “صديقك” فتذكرت كل تاريخكما معاً ونسيت موقفه من الأزمة السورية هل تستطيع أن تصمت عن القول “الله يرحمه”. إذا صمت فهذا يعني أن الحرب أو شرطة الترحم على الميت قد منعوك وفي كلا الحالتين “أنت ضحية”.
اقرأ أيضاً وفاة الفنانة السورية “مي سكاف” في باريس
أشخاص كثر وقعوا ضحايا اتخاذ موقف متلائم مع أعراف السوريين قبل 2011. منهم فنانون وصحفيون وكتاب ونقاد ونجارون وحدادون ومعلمون وووإلخ. ودفعوا غالياً ثمناً لقولهم”الله يرحمه/ها” منهم من تم تخوينه ومنهم من أغلق صفحته في فيسبوك ومنهم من تم إقصاءه وتهميشه أو حتى فقد عمله أو منصبه الوظيفي. فقط لأنه/ها قال/ت “الله يرحمه/ها”. والأحداث كثيرة نظراً لكثرة الموت في هذه البلاد.
تسود هذه الظاهرة بينما أعراف السوريين تاريخياً تقول إنه لا شماتة في “الموت” مثلاً. أو أنه لا يجوز على الميت إلا “الرحمة”. إضافة إلى الموقف المجتمعي الأخلاقي تاريخياً الرافض للتشفي بالميت أو التمثيل بجثته وكلمة “تمثيل” هنا لا أستخدمها بمعناها الحرفي وإنما المعنوي. ويضطر سوريون آخرون للاستسلام لهذه الظاهرة التي كلما تمددت تراجع قبالتها فرصة اقتراب السوريين من بعضهم حتى في “الموت” فالخلاف امتد حتى لجواز الترحم على الميت من عدمه.
في رواندا على سبيل المثال قتل 800 ألف إنسان في 100 يوم. وفي النهاية لم يجد الروانديون بداً من الترحم على بعضهم البعض والعيش معاً بسلام. وكانت النتيجة اليوم أن رواندا من أهم دول إفريقياً وقبلة سياح العالم وتمتلك اقتصاداً نامياً متقدماً جداً.
وكذلك الحال في جنوب أفريقيا التي لطالما اتخذناها قدوة ومجَّدنا بطلها “نيلسون مانديلا” هذا الرجل الذي ذاق الويلات من شركاءه في الوطن “27 عاماً من السجن” وعندما خرج من سجنه ترحم على الضحايا جميعهم ومد يده للمصالحة فكانت “جنوب أفريقيا” التي نعرفها الآن حاضرة “القارة السمراء” ورمزاً للعالم.
هي آثار الحرب التي تكاد تدمرنا. تنهش أجسادنا من الداخل. تحاصر قلوبنا بسوادها. تحيط أعيننا بالغشاوة… الحرب التي شوهتنا دون أن ندري حتى بتنا نظن أننا كلما ازددنا سوداوية كلما كنا أقرب إلى “الوطن” الذي راح يذهب بعيداً عنا.