كيف انزاحت أمي من الطبقة الوسطى ودخلت حفرة الفقر؟
موظفو الفئتين الأولى والثانية بسوريا في تراجع

لم تضحك أمي كعادتها، حين مازحتها قائلة: «لن تستطيعي الاستمرار بنشاطك النسوي بعد اليوم، لقد فاتتك ورشة عمل عبر الزووم، واجتماعين متتالين لمناقشة قانون للعنف الأسري».
سناك سوري – لينا ديوب
يمضي هذا الضيق، إن الشهر الأول من السنة كئيب لأناس مثلنا خرجوا قريباً من الحرب، ردت علي، مضيفة: «سيتحسن وضع الكهرباء والانترنت، لكن هل ستتحسن قيمة الليرة؟».
تراقب أمي اليوم رسائل الهاتف، في انتظار عدد قليل من كيلوات السكر والرز، وبعض ليترات من البنزين بالسعر الحكومي المدعوم، كغيرها من نساء كثيرات معيلات، لم تكن تهتم قبل الحرب بالحصول عليها، هي التي اقتنت كغيرها من موظفات الدرجة الأولى سيارة كورية الصنع بقرض لم يكن صعباً على دخل أسرتنا تسديده حينها سنة 2005، مما سهل لها حركتها والتوجه من بيتنا في إحدى ضواحي “دمشق” إلى قلبها وإلى غيرها من الضواحي للمشاركة في النقاشات وورش العمل الخاصة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي، والتمكين الاقتصادي والصحي للنساء، كما تعديل قوانين الأحوال الشخصية وقانون العقوبات وغيرها من القوانين التمييزية.
قطعت أمي مئات الكيلومترات إلى “حمص” و”حلب” و”طرطوس” و”اللاذقية” و”دير الزور” مع صديقاتها، للبحث والكتابة عن العمل المنزلي غير المحسوب للنساء، وعن الفقر المؤنث، يشجعها والدي الذي يحمل نفس أفكارها، والذي كان دخله يسمح بتغطية غيابها عن البيت بالاعتماد على عاملة تنظيف ووجبات من الطعام الجاهز.
خطط استراتيجية لمشاوير اعتيادية
يلجأ الكثير من السوريين والسوريات اليوم، للاتفاق مع الأصدقاء الذين يملكون سيارات، للتخطيط معهم للخروج إلى نشاط لم يعد أولوية اليوم، بل رفاهاً قد يكون بعيد المنال، كحضور حفلة موسيقية، أو زيارة عائلية، أو المشاركة في نقاش حول واقع البلاد اليوم وإلى أين تسير.
إلى الفقر تسير
هؤلاء الذين تراجعت حياتهم، هم موظفو الفئة الأولى والثانية الذين يتقاضون السقف الأعلى للدخل، وهم أيضاً الموظفون في نهاية سنوات عملهم، وهم أيضاً من كانوا قبل الـ2011 جزء من تشكيلة الطبقة الوسطى في “سوريا”، علماً أنه لا يصح اعتبار كل موظفي الفئة الأولى والثانية من الطبقة الوسطى، لأن تدقيق مؤشرات التقرير الشهير الذي أعدتهُ هيئة تخطيط الدولة بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في “سوريا” عام 2008 يوضح بأن أكثر من ثلث سكان “سوريا” هم من الفقراء (33.6 في المئة بدقة)، وهذا يعني 6.7 ملايين فقير منهم 12.3 في المئة يعيشون فقراً مطلقاً، وهم 2.4 مليون.
اقرأ أيضاً: سوريا.. بسبب الفقر عائلة قامت بواجب ضيفها وبقيت دون طعام
وعند تطبيق معادلة حساب خطَي الفقر الأعلى، الأول (2 دولار للفرد في اليوم)، والثاني نصفه، وباعتبار أن وسطي عدد أفراد الأسرة السورية هو خمسة أفراد، فإن تجاوزها لخط الفقر المطلق يتحقق حال يتعدّى دخلها 150 دولارا شهريا أي 7500 ليرة وفق حساب سعر الصرف السائد حينها.
أوهام أمي
عام 2014، استنتج تقرير بعنوان “الطبقة الوسطى في البلدان العربية، قياسها ودورها في التغيير”، وضعته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا) أن نموذج التنمية العربي أنتج طبقة وسطى أكثر تعليماً وصحة، لكنها ضعيفة اقتصادياً ومقهورة سياسياً، تقلّص تعدادها من نصف سكان العالم العربي إلى حوالي 33 في المئة عام 2011، وازداد معها حجم الشرائح الفقيرة والمعرّضة للفقر إلى نحو 43 في المئة.
الزيادات المتكررة على راتب موظفي وموظفات الفئة الأولى، لم تحسن القدرة الشرائية مع موجات الغلاء المتتالية، بل على العكس تراجع الراتب بعد حجر كورونا في آذار 2020، إلى مادون 100دولار لموظفي الفئة الأولى، ليصل إلى حوالي 30 دولار اليوم.
ما أبشع فقر الأمهات
لم تزل أمي تشاركني النقاشات حول دراستي في الاقتصاد، وتتقبل آرائي عندما أدخل في واقع البلاد والمقارنات مع تجارب مشابهة، تنتبه لتعليقاتها وأحاديثها معي، لكنني أسمع ما تقوله لصديقاتها التي لم تعد تلتقيهن كما في السابق: «إنني كما لدات غرفة الجلوس أخفت بعد نصف ساعة من انقطاع الكهرباء، إلى حفرة وليس إلى الكنبة».
اقرأ أيضاً: الفقر والجهل والحروب من أسباب زيادة العنف في سوريا